شعار قسم مدونات

عمالة الأطفال الإلكترونية

مدونات - اطفال

بين مقطع تتجاذَبَهُ الأناملُ مرسلة إيّاهُ عبرَ أرقام "الواتساب" في مناحي الكرةِ الأرضيّةِ يُظْهِرُ طِفلا في حدودِ السّادسةِ من عُمُرِهِ يُحاولُ أن يضعَ سيجارة في فَمِهِ . . . وبين مقاطعَ أخرى لطفلة يتشكّلُ وعيها على نظرها في المرآة وهي ترقّع وجهَها بأنواعِ المساحيق التي لا تليقُ بعمرها ولا بِرِقّة جِلدها ويحوز على عشرات الآلاف من الضّحكات الإلكترونيّة.. وفي ذاكرةِ أجهزتنا النّقّالة تقبعُ العشرات من الفيديوهات التي تُظْهِرُ أطفالا يبكون بشكل هستيري لأنّ أباهم حاولَ أن يُمازِحَهم بموتِهِ. وفيديوهات تحوي أطفالا يتلفّظونَ بكلمات تخالفُ الدّين والأعرافَ والأخلاقَ والطّفلُ يلفظها مع صعوبة في نُطقِها فتخرجُ تلكَ الكلماتُ مُضْحِكة ممن يحمِلونَ الهواتفَ يصوّرونَ أطفالَهم من أجلِ أن يتمتّعوا ببعضِ الترفيه على حسابِ أبنائهم..

          

تلك المقاطعُ التي يتباهى بتصويرِها وترويجِها آباء وأمّهات يملؤونَ الدّنيا ضجيجا إن مسّ أحد ابنهم بكلمة لا تليقُ أو حاولَ أن يمدّ يدَه إلى أحدِهم بمزحة بسيطة ولكنّهم يُلقونَ بأبنائهم في تهلكة "الميديا" ويجعلونَ من أبنائهم مُهرّجين وأدوات للتّسلية ذريعتهم بهذا كلّه أنّهم "يمزحوا" فقط !! هنا سأبدأ بالوقوف على بعض التّساؤلات:

    

1. أليست هذه الحركاتُ الطّفوليّةُ التي يقوم بها أطفالُنا تصدرُ عنهم بدون وعي وانتباه فكيف نوثّق ما هو عابر للمرحلة العمرية وسوف ينظر إليه؟؟

2. لو كان الأبُ أو الأمُّ هما اللّذَين قاما بمثلِ هذا التّصرّف العفويّ؛ فهل يرغبان أن يكونا موقع سخرية وضحك للإنسِ كلّهم؟

3. هل لو قام أحد من الناس وصوّر ابنكم بمثل ما قمتم به، هل هذا سيعجبكم أم لا؟؟

4. ألا ترون أنَّ هذا التصرّفَ هو من خصوصيّة أبنائكم الذين من حقّهم أن يكون لهم بها قرار واختيار فكيف نصادرُ قرارَهم بهذه الفيديوهات؟؟

5. النموّ والتطوّر يشملُ الوعيَ في مناحي الحياةِ وهو ما يكون مُغذّيا لقرارات في المستقبلِ، فالطفلُ عندما يكبُرُ قد لا تعجبُه تلك الفديوهات التي تم تصويرُه فيها، فكيف يكون ردّكم إن عاتبكم أبناؤكم لحظتها ؟؟

6. الله يقول "رب ارحمهما كما ربَياني صغيراً" الرحمة تكون متناسقة مع مقدار التربية في الصّغر.

            

هي ابنتك بيلوجيا ولكنها ابنة المستقبل، فوجب عليك أن تعدها إعدادا يليق بمستقبلها وبمستقبلِ جيلها
هي ابنتك بيلوجيا ولكنها ابنة المستقبل، فوجب عليك أن تعدها إعدادا يليق بمستقبلها وبمستقبلِ جيلها
    

وتعالوا نترافق لكي نشاهدَ ذاك المخرجَ وهو يكررُ على حركة يد الطّفل الذي لا يتقن سوى هذه الحركة بعفويته، ولكنه مطالب لكي تتماشى هذه الحركةُ مع بناءِ الصورة في ذهن المخرج فوجب على الطفل أن يتحمل هذا الضغط لأن المخرج أراد ذلك؟؟ وهناك ابن يحاول أن يكرر قصيدة أنيقة بمخارج حروفه البسيطة والممتعة له، فإذا بالأب يتناول هاتفه لكي يمرر العدسة في ثوان معدودة على هذه الحروف ثمّ يصبح ما كان محطّ أمر فطريّ في عيون الأهل محطّ تندر وسخرية من الناس عبر وسائل التواصل، فنهم من يقول في التعليقات: "هبله زي أبوها اللي صورها" وآخر يقول: "بس تكبر رح تشوف الفيدو وتلعن أبوها"، وهكذا دواليك تجد من التعليقات من يغمز ويلمز بها وبأهلها وكل هذا لمَ ؟؟ ومن أجل ماذا ؟؟ وما الفائدة المرجوّة ؟؟ فقط لحظات من المتعة الوهمية . . . والتدخل في خصوصية ابنتكم؟

       

وهنا سيقف متسائل موقفا مشنعا على عبارتي السابقة وهي: "خصوصية ابنتكم" ؟؟!! ويتساءل وهو يمور غضبا إنّها ابنتي؟؟ وأنا حر بها؟؟ وهي مساحتي الشخصية؟؟ وهي مبسوطة ؟؟ ولا علاقة لكم بها ؟؟ أنتم أعداء النّجاح؟؟ ولأنّ أبناءكم وبناتكم لم يظفروا بالحضور عبر وسائل التواصل مثل ابنتي فلذلك أنتم مغتاضون؟؟ اتركوا لي بيتي ولا تتدخلوا فيه؟؟

          

وهنا نقف بهدوء الواثق بفهم سيكولوجيّة هذه الردود من هذا الأب أوذاك ونخبرُه ونحن نقرأ في اعتراضاته أنه الأب المحبُّ لابنته وابنه، ولكنه يحاول أن يداري على جرحٍ هو في نظره عابرٌ وسيلتئم مع الأيام، ولكنّه لا يعلم  إذا ما الجُرحُ رُمّ على فَسَاد تبَيّنَ فيهِ تَفْرِيطُ الطّبيبِ . . . أما تلك التساؤلات التي يصعّد الأب من خلالها بنا النّظر فإني أقول له: هي ابنتك بيلوجيّا ولكنها ابنة المستقبل فوجب عليك أن تعدَها إعدادا يليقُ بمستقبلها وبمستقبلِ جيلها ؟؟ وهي ابنتك ولكنّها ابنتك على شكل أمانة عندك فكم من أب وأمّ سوف يُسألون عن الأمانة المتمثلة في أبنائهم ؟؟ وكم من مرة نمرُّ على آية قرآنيّة مدهشة قِوامُها : "ربِّ ارحمهما كما ربّياني صغيرا" وهناك في تلك المنطقةِ المعتمةِ في النّفس الإنسانيّة تضيءُ الكاف "كما" بالضبط فالكاف هنا تخبرُك بتحديد تربوي عجيب أنّ الرحمة سوف تتنزل عليك بمقدارِ ما كنتَ حافظا للأمانة في صغرهم، لأنَّ مرحلةَ الصّغر هي المرحلة التي تتشكل فيها كافة المشاعر التي تتحكم بنا في المستقبل عندما نكبر.

          

والسؤال هنا: هل كل أنواع تصوير الأبناء تعتبر استغلالا ؟؟

الجواب: بالطبع لا . . .

ولكن هناك بعض المحددات العامة التي تُعين على المشي كَتِفا إلى كتف مع التّكنولوجيا من دون أن نغرقَ في لُججها: الأول: أن يكون المقطع لأبنائنا وهم في حالة ضحك وانبساط ويكون قصير وفيه شيء من الإنجاز الإيجابي للطفل. الثاني: أن لا يتكرر التّصوير لهم بشكل دائم بل أن يكون بين المقطع والآخر ما يقارب سنة أو أكثر. الثالث: ألا تكون فيه خصوصية للطفل تجعله محط سخرية مثل مخارج الحروف وطريقة المشي أو الكلام أو الأكل أو الدخول إلى الحمام، وغير ذلك من الخصوصيات التي من الممكن أن تتطور مع الأيام أو لا تتطور وتبقى ملازمة له.

                

ختاما.. أبناؤنا رصيد المستقبل، وهم لَبِنات جدار الوطن، وأنتَ تختار أن يكون جِدار الوطن مَرصوصا بلبنات ممتلئة بمضمونها الذي يصلح لأن يتكىء عليه الوطن في أفراحه وأتراحه، أم هم لبنات هشّة تميل عند أول هبوبِ ريح . . .  إجعلوا الأضواء تُنيرُ لَهم طَريقَهُم لا أن تَخطَفَ أبصارهم ومستقبلهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.