شعار قسم مدونات

تنمية التخلف

مدونات - زراعة

"لماذا لا تنام؟ يقولون إن أحدهم يجب أن يبقى مستيقظا. يجب أن يكون أحد هنا"

(فاتسلاف هافل. كتاب قوة المستضعفين)

     

عندما تكون الحاجة ملحة ومؤلمة، والحلول الجذرية معلومة وممكنة، والحكومات تستنكف عن الحل، فاعلم أنَّ الأمر يتعلق بتنمية التخلف، وهذا ما عانت منه مصر في العقود الأخيرة من عجز مفزع في الغذاء اللازم للأفواه المتزايدة يوميا. وكان من أهم عجوزات مصر الغذائية، عجزها في مجال القمح الذي يعتبر الغذاء الرئيس لشعب هذا البلد الحضاري العريق.

    

حبة القمح المصرية المباركة
في زيارة لجامعة القاهرة عام 2005م، دخلنا إلى مخابر كلية الزراعة حيث كنا على موعد مع أحد أهم أساتذة هذه الكلية العريقة. كان الوضع المادي للمخابر يرثى له، فكل وسائل وتقانات البحث المخبري قديمة متهالكة لم أرها تصلح للعمل أو البحث العلمي بشيء.

    

وعند سؤال مضيفنا عن ذلك، قال معترضا: هذه المخابر التي لم تعجبكم هي التي طورت حبة القمح المصرية المحلية، وفيها وضعت الخطة القومية لاكتفاء مصر من القمح في أربع سنوات. قلت: وكيف ذلك؟ قال: في هذه المخابر، طورنا (جينيا) حبة قمح تناسب تربتنا الصحراوية، وتتحمل الجفاف والظروف المناخية المحلية، وفي حال تطبيق الخطة فإننا بحاجة إلى أربعة أعوام حتى نحقق الاكتفاء الذاتي من القمح، ونتوقف عن الاستيراد. قلت: ولكن الأراضي الصالحة للزراعة في مصر لا تشكل إلا نسبة ضئيلة من مساحة مصر كلها. ضحك مضيفنا وقال: ومن أخبرك بهذه المعلومة الغبية؟ قلت: هذا ما عرفناه من الكتب والمراجع ونحن ندرس الإمكانات الاقتصادية لمختلف الدول العربية. قال: كان هذا سابقا، أما الآن وبعد تطور العلم، أصبح بالإمكان زراعة أرض مصر كلها، وبأساليب زراعية حديثة متطورة، وقليلة التكلفة، وبكميات مياه قليلة نسبيا إذا ما قورنت بأساليب الزراعات السابقة.

    

إن حكومة تمتلك حلا جذريا لمشكلة بنيوية مصيرية ولا تطبقه هي حكومة خائنة، أو مستعمَرة ذات إرادة مسلوبة، أو كلاهما معا

كانت معلومة صادمة بالنسبة إلي!!! ففكرت يا إلهي! طيلة عقود ومصر تستورد القمح، وتستنزف موازناتها السنوية على المحصول الغذائي الرئيس للبلد، وبسببه يرتهن قرارها السيادي للدول المصدرة لهذا المحصول، والآن أمكن تغيير كل ذلك. قلت: وهل بدأتم تطبقون الخطة؟ قال: للأسف إن وزير الزراعة قد وضع الخطة في أحد أدراج مكتبه وأغلق عليها.. ولم يطبقها.

   

واستمرت مصر تستورد القمح، وتحل مشكلتها الغذائية بحل سطحي على مستوى الأعراض، لا ينهي المشكلة، بل يفاقمها مع مرور الأيام، ولديها كل الإمكانية لحلِّها جذريا وبعوائد مضاعفة. فتطبيق مثل هكذا حل، سيخلق آثارا ارتدادية إيجابية على الاقتصاد المصري يصعب حصرها على المدى القريب، فكيف بحصرها على المدى البعيد!

    

إن حكومة تمتلك حلا جذريا لمشكلة بنيوية مصيرية ولا تطبقه هي حكومة خائنة، أو حكومة مُستعمَرة ذات إرادة مسلوبة، أو كلاهما معا. وإن غالبية دول العالم المتخلف تعمل على حل مشاكلها،­ إذا عملت على مستوى السطح (الاستيراد مثلا). وإن إنفاق جل الموازنات الحكومية لإحداث تغيير على هذا المستوى، هو تبديد لهذه الأموال وهدر لها. والحل دوما يكمن في إنفاق المبلغ نفسه ولكن بإحداث تغيير عميق ودائم، وهذا لا يتأتى إلا بتغيير البيئة التي تولد أسباب المشكلة ذات الأعراض المختلفة.

     

وهذا ما حدث في مصر إبان "ثورة 25 يناير"، حيث زرعت مصر في ظل رئاسة الدكتور محمد مرسي وحكومة هشام قنديل أكثر من 50% من حاجة مصر من القمح ومنذ السنة الأولى، لكن يبدو أن القضية أعمق من ذلك بكثير، فتنمية التخلف منهج معتمد لإبقاء الحال (السيئ) على ما هو عليه، وهذا ما حصل في حلب.

   

حلب "إيكاردا" مستودع بذور يوم القيامة
غرب مدينة حلب، وعلى بعد ثلاثين كيلومتر تقريبا، توجد أرضٌ مسورة بسور عال من الشبك الحديدي القوي، مساحتها بالضبط 948 هيكتارا، يتوسطها مقر الإدارة العامة لمنظمة "إيكاردا- ICARDA" (المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة).

        

قامت إيكاردا بنقل كل مخزونها السري من الحبوب والأبحاث إلى مركز طوارئ مؤقت أقيم على عجل في بيروت كي لا تتلف
قامت إيكاردا بنقل كل مخزونها السري من الحبوب والأبحاث إلى مركز طوارئ مؤقت أقيم على عجل في بيروت كي لا تتلف
     

رغم أن منطقة غرب حلب تقع في منطقة خط الأمطار الغزيرة نسبيا، إلا أنهم يسمونها جافة، ومع ذلك يجرون تجارب طويلة الأمد لزراعة وتطوير سلالات من القمح والغلات الزراعية كالبقوليات والحبوب الأساسية.

   

قلة من يعرف ما يدور داخل هذه الأسوار العالية وداخل هذا المركز المنعزل وسط هذه الأرض الشاسعة، لكن ما علمه الشعب السوري لاحقا، وما نشر في وسائل الإعلام وعبر الإنترنت أن مقاتلي الثورة السورية، وهم في مسيرتهم لتحرير مدينة حلب، اقتربوا من منطقة إيكاردا، حيث قامت الأخيرة بنقل كل مخزونها السري من الحبوب والأبحاث إلى مركز طوارئ مؤقت أقيم على عجل في بيروت، كي لا تتلف البذور التي نتجت من أبحاث سنين طويلة من العمل المُضني والجاد لتطوير سلالات من القمح والبقوليات تناسب البيئة المحلية، وتعطي أفضل إنتاجية عرفتها هذه الأرض.

    

وكانت نهاية هذه البذور أن وصلت إلى مستودعات رئيسية فيها كل الشروط المناسبة للتخزين ولمدة لا تقل عن مئتي سنة، حتى لو انقطعت عنها كافة مصادر الطاقة. وتقع هذه المستودعات في القطب الشمالي على أراض تتبع للحكومة النرويجية، تعرف باسم: مستودعات بذور يوم القيامة، وهي مخصصة لتخزين البذور التي نجح تطويرها والتي تستطيع إعادة إنتاج ما يكفي للبشر في حال حدوث كوارث طبيعية أو حروب عالمية مدمرة.

         

    

إذا، بذور غلاتنا الزراعية الرئيسة محفوظة بأمان لكن في غير أيدينا. ولا يزال المخطط الذي أسميته تنمية التخلف فاعلا منذ عقود طويلة، ولا يزال حلم السوريين والعرب كافة بتوهج أحلامهم واستعادة استقلالهم التام وتحرير أنفسهم من ربقة المستعبد الغربي أولا والعربي ثانيا، وذلك بنشر الوعي بين شباب الأمة عن طريق كشف الأسرار لهم وإيصال كافة المعلومات اللازمة للحفاظ على أملهم وآمالهم، ولكي يبقى أحدهم مستيقظا ويحكي ما جرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.