شعار قسم مدونات

سمكة في محبرة

مدونات - مدرسة

لم يكن زميلنا عبد الوهاب هو الوحيد الذي يأكل المماحي المعطرة، لكنه الوحيد الذي كان يقرض أقلام الرصاص الملكية، ويعلك قبعات الأقلام، وهي مماحي طرية متوجة بتيجان ذهبية. انتقلنا من مرحلة العصر الرصاصي القابلة للمحي إلى عصر الحبر الأزرق، الذي لم يكن يمحى سوى بالأظافر حكاً، فورق "النشاف" كان له مهمة إسعاف الورقة من الغرق في البقع. وكنا مبتدئين، ونتعثر، فتجد كل كلمة جريحة على سطورنا المعوجة وبجانبها بحيرة صغيرة من الدم الأزرق النازف من جراح الكتابة.

    

كان عبد الوهاب يشرب الحبر كما نشرب القهوة والشاي، ثم صار يأكل التراب، وقشور الدهان الكلسية. وكان زميلنا صلاح يطحن الزجاج بين رحى أسنانه، أسوة بلاعب سيرك سرياني شهير اسمه جان خابوط، كان جان خابوط بطلا من أبطال السيرك، يضطجع على لوح من المسامير، ويجرُّ شاحنة بحبل مشدود على رأسه، وله صور في نوادي كمال الأجسام ودور الرياضة.

    

 لكن عبد الوهاب يأكل الأشياء المعدنية الصلبة، ويُعاقب، ثم أمسى يشرب صمغ مادة الأشغال، ويلعق صباغ الأحذية، وقشور البرتقال، ولم تجد معه العقوبات والعصي، كان يأكل ليس للإثارة الإعجاب، ويشرب بشراهة ليس لنيل الدهشة، كان إدمانا لم يعرف أحدا تعليلا له، وكان أكل الأشياء المرة والقاسية والمحرمة شائعا في معارك التحدي الدائمة بين الأولاد، وبين الكبار أحيانا. كان الكبار أيضا يتبارزون ويتبارون بأكل الأطعمة اللذيذة؛ أكل صينية كاملة من الكنافة، أو التهام فروجين كاملين، أو شرب سطل من اللبن، العاجز عن إتمام التحدي يدفع ثمن المأكولات.

    

 وكان يمكن أن ينال أعجاب ابنة معلمتنا الصغيرة رولا في مدرسة ذات النطاقين المجاورة أو زميلتنا ميس الجميلة، لولا أن الحبر لا يشتهى، والأقلام الخشبية لا تستساغ، فصار أسطورة في الصف أحيانا تثير الإعجاب والقسوة والشجاعة والغثيان، وكان بتلك الذريعة يأكل بقايا اللفائف التي يتركها الأولاد في شقوق الحيطان، أو في ثقوب الجدران تكريما للخبز من أن يرمى في سلال القمامة، كما لو أن تلك البقايا والفضلات قد تحولت إلى أدوات تحدي مدرسية. وسقط عبد الوهاب في أحد الأيام مغشيا عليه، فأسعفناه في موكب مضحك إلى المشفى يشبه مسيرات الكشافة.

    

توقف عن التهام الأقلام وأطراف المساطر والزجاج المكسور وشرب الحبر الأزرق، لكنه استمر مثل بقية الزملاء في التهام المماحي، فهي شهية، وطرية وتفوح من عطور الربيع

لم تكن في بلدتنا سيارات إسعاف، ورافقتنا المعلمة دعد، وخرجنا جميعا نحمله على أكتافنا من غير نعش، فيما يشبه الجنازة، وبلغنا المشفى وسط دهشة أهل البلدة، التي سارع بعض رجالها إلى حمل الولد، وأدخلناه على غرفة الإسعاف وانتظرنا في الخارج، ونحن نتذكر مهارته في قلب جفنيه العلويين، والهالات السوداء حول عينيه، ونهمه لأكل الرمل وحساء الحبر.

    

 وأمرتنا معلمتنا ذات الشعر القصير أن نعود، على أن يبقى ثلاثة من الزملاء، ينتظرون الخبر ويحرسون المصير، وهم يتوقعون أن يجري الطبيب له عملية جراحية، ويستخرج أدوات مدرسية كثيرة من حاوية بطنه؛ أقلامٌ ومبارٍ وطباشير، وأطراف مساطر، وبقايا زجاج مكسور.  سيجد بطنه مغارة علي بابا. وعاد الثلاثة في نهاية الدوام المدرسي، وأخبرونا: إن الطبيب قال إن عبد الوهاب مريض، ولم يخبرنا شيئا عن أخبار بطنه، وما به هو فقر دم! وانه نقل إلى داره في سيارة أحد المعارف. وأبرزوا الوصفة الطبية، وكان بها حبوب فيها حديد مذاب ومجفف، وحضٌّ على تناول اللحوم والكبدة، وقرأت المعلمة اسم المرض، وأمرت المعلمة أحد الزملاء بإيصال الوصفة الطبية إلى داره فورا.

    

وصحا حوت المحابر في اليوم التالي، وعاد إلى المدرسة، ومعه لفائف من الكبدة يأكلها بنهم في الاستراحة، وكانت والدته تحضر له وجبته في موعد الاستراحة وتناوله إياها من خلال الشبك المعدني، ذبحوا له بقرتهم الوحيدة. وكانت المعلمة دعد تؤثره بقطع من الشوكولا قضمت بعضا ًمنها، فنتمنى لو أننا مصابين بفقر الدم، ونحسده عليها، ونراقبه وهو يلتهمها من الطرف الذي قضمت دعد منها، وتوقف عن التهام الأقلام وأطراف المساطر، والزجاج المكسور، وشرب الحبر الأزرق، لكنه استمر مثل بقية الزملاء في التهام المماحي، فهي شهية، وطرية وبضّة وتفوح من عطور الربيع.

    

التقيت بعبد الوهاب مصادفة، بعد ثلاثين سنة، في دمشق، هو الذي عرفني وميزني بين الحشود، كانت معه إيطالية جميلة، عرفني بها وقال: زوجتي صوفيا.  وتذكرنا أيام التراب والكلس والحبر، وسألته عن ممحاته الإيطالية، فقال ضاحكا: صوفيا مبراة وليست ممحاة، وضحكت زوجته مع أنها لا تفهم العربية، وسألني عن حالي، وعملي وأجري في مهنتي، فأبدى شفقته عليّ، وقال التحق بي في إيطاليا، فاعتذرت بعلّة صعوبة الحصول على جواز سفر واعتذر مني بسبب لقاء في السفارة الإيطالية، وقدّم لي بطاقته فوجدت اسما غريبا عليها، وقرأت اسمه: البرتو؟ ونظرت إليه مندهشاً، فلعله قد أخطا؟ وناولني بطاقة لأحد معارفه، فقال: هذا هو اسمي الجديد، ما كنت أجرؤ على زيارتي بلدي باسمي الحقيقي، فسألته عن السبب، فقال ضاحكا: خشيت أن يتهموني بالخيانة وأكل تراب الوطن.. تشاووووووو.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.