شعار قسم مدونات

كيل المديح للعجوز الخبيثة

BLOGS بريطانيا

العجوز الخبيثة هي بريطانيا. وسأبدأُها بالهجاء قبل المديح. تعرفون وأعرف وعد بلفور، فلنقفز عنه. وأعرف النظام المصرفي البريطاني جيداً، ولعلي أقدم بعض التنوير لمن يصر على أن بريطانيا هي أم القانون وأبوه. قد كان لي حساب عند مصرف بريطاني لثمان وعشرين سنة. وكنت زبوناً نموذجياً: لم أقع قط تحت الخط الأحمر، ولا استدنت. ثم إني أردت سحب تحويشتي لكي أبني بيتي. واقتضاني الأمر سنة ونصفاً وأنا رائح غاد، والمصرف، وهو بالمناسبة أكبر مصارف بريطانيا، يتحايل علي بأخس أنواع التحايل، ونجحت أخيراً.

 

كان موظف المصرف الذي عايش الأسبوعين الأخيرين من رحلتي المضنية يطأطئ خجلاً ويحاول أن يعتذر، ولكنه بالطبع لا يعتذر، لأن هذا سيكون حجة لي أمام المحكمة لو أنني سقت المصرف إلى المحكمة. ولماذا لم يعتذر لي الموظف عن ألاعيب مصرفه الدنيئة؟ السبب أن هناك تقليداً بريطانياً جميلاً اسمه "الصدق النسبي". فلو استدعيت ذلك الموظف للشهادة في المحكمة فهو سيجد تقديم شهادة كاذبة من أشق الأمور، لِما رُبِّي عليه من الصدق النسبي.      

 

لا أخلاق في المعاملات المصرفية، ولا في السياسة. لكن البريطاني تربى على التحايل وعلى أنصاف الحقائق. ويستعمل البريطانيون عبارة (الاقتصاد في قول الحقيقة) كثيراً، وهي مناسبة لهم، فهم يستعيضون عن الكذب بالتلميح والتعريض. أنا في معرض مديح للبريطانيين فلماذا البدء بالهجاء؟ لأنهم استعمروا الشعوب وقتلوا مئات الألوف قتلاً مباشراً، وعشرات الملايين قتلاً غير مباشر (فيما يلي اقتباس من نص برنامج لي بعنوان "سواسية" وهو قيد الإعداد):

 

كنا فيما مضى نقول إن "أنصاف المتعلمين" شيء رديء. ليت عندنا ملايين أنصاف المتعلمين فهذا خير من المتعلمين الذين يقتصر تعليمهم على نصوص بشرية رفعوها إلى مرتبة القداسة

"كانت حصيلةُ المجاعات التي عرفتها الهند تحت الحكم البريطاني ثمانين مليوناً من البشر. وفي سنوات الحرب العالمية الثانية يموت خمسةُ ملايينِ هنديٍّ في البنغال، وتشرتشل يرد على منتقديه: "بِمَجاعة وبدونها، الهنود يتوالدون كالأرانب". وبعد انصراف بريطانيا مدحورة ظلوا يتكاثرون.. لكن بلا مجاعات." انتهى الاقتباس.

 

قد وصلنا إلى تشرتشل فلنبدأ بالمديح. ليس لشخص تشرتشل الاستعماري، لكن للتقاليد السياسية البريطانية. انتهت الحرب العالمية الثانية وتشرتشل هو الذي قاد بريطانيا والحلفاء جميعاً إلى النصر. وبانتهائها حل الاستحقاق الانتخابي. ووقعت مفاجأة لم يفهمها العالم. سقط تشرتشل عام 1945 سقوطاً لم يشهد له التاريخ الانتخابي البريطاني مثيلاً. ومن هو منافسه؟ هو كليمنت أتلي، الرجل الذي كان يركب القطار ويقرأ جريدته مرتاحاً لأن أحداً من الركاب لا يميزه. وحكم أتلي خمس سنين، وجاءت حكومته بأحسن نظام ضمان صحي في التاريخ، وأدخلت مئات التشريعات الجديدة.

 

كيف تأتّى للبريطانيين أن يسقطوا تشرتشل هذا الإسقاط المهين؟ هم لا يقدسون الأشخاص ولا الأشياء ولا المعتقدات إلا قليلاً. جاء ذلك بعد مسيرة تاريخية طويلة. لقد أجلسوا الملك جون قبل 803 سنوات على كرسي مريح وأعطوه قلماً وقالوا له: وقع على ميثاق الحقوق "الماغنا كارتا"، وقبل 370 سنة قطعوا رأس الملك تشارلز الأول بالبلطة، وأقاموا جمهورية استمرت نحو عشر سنين، وقبل 330 سنة عزلوا الملك جيمس الثاني فيما سموه الثورة المجيدة. وعندما ملكتهم فكتوريا المتوفاة عام 1901 قيل: لو قدم لها رئيس الوزراء شهادة وفاتها لأذعنت ووقعت عليها. وعام 1945 أسقطوا تشرتشل، وعام 1990 عزلوا ثاتشر عزلاً بدون انتخابات. المديح مستمر. أنا أرى المحاسن والمساوئ ولكنني لا أجري بينها عملية مقاصَّة. أحب أن أبقي المساوئ بارزة بذاتها والمحاسن بارزة بذاتها. وأحاول أن أتجنب إصدار الأحكام الجارفة. أنا أهجو بالمعلومة الموثقة، وبالمعلومة الموثقة أمدح.

 

هاك معلومة: يصدر في بريطانيا كل سنة 184,000 كتاب بين جديد ومحرر، ويستثنى من ذلك الطبعات المكررة بلا تحرير. (المصدر: اليونسكو لعام 2011). هذا مجتمع حيوي يكتب ويقرأ ويفكر ولا يقدس الأشخاص ولا الأشياء إلا بقدر. كلما اتسعت مساحة التقديس ضاقت مساحة التفكير الحر. عند البريطانيين تعصب، وفيهم ناس يطلقون الأحكام الجارفة، وعندهم ما عند كل أمة من العوام الذين يكتفون بالقول: فلان زبالة، وفلان عظيم. ولكن هؤلاء قلة. ذلك أن القوم يقرأون. البريطانيون يتميزون بالحدز وبعدم الجزم. تقول للبريطاني: اللبن أبيض. فيقول لك: أحقاً؟ تقول له: انظر بعيني رأسك، ألا تراه أبيض؟ فيقول لك: أُوه! لعله كذلك.    

 

كنا فيما مضى نقول إن "أنصاف المتعلمين" شيء رديء. والآن نقول "ربَّ يوم بكيت منه فلما.. صرت في غيره بكيت عليه". ليت عندنا ملايين أنصاف المتعلمين فهذا خير من المتعلمين الذين يقتصر تعليمهم على نصوص بشرية رفعوها إلى مرتبة القداسة. عند الإنجليز مثل يقول: (قليل من المعرفة شيء خطر). فأما تقديس كتب البشر وملوك البشر فهذا أمر تجاوزه القوم منذ زمن بعيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.