شعار قسم مدونات

"أحبب من شئت فأنت مفارقه"

blogs - sad

يفتح الإنسان عينيه على وسط تزينه وجوه أولئك الذين يتعلم أن يحبهم مع الوقت، أولئك الذين يتعلم أسماءهم بصعوبة ليتعلم نطقها مع الوقت فيصير يعتقد أن هذه الأسماء لن تتغير وأن هؤلاء الأشخاص لن يرحلوا، سيظلون هنا كما عهدهم أول يوم. لكن طبيعة الأمور تستوجب منا أن نكبر ونعي أن لا شيء دائم، حتى من أحببناهم كما لم نحب من قبل، لكل شيء أجل وكتاب. ينضج الإنسان مع الوقت، تقل عنده دهشة الطفولة شيئا فشيئا إلى أن تنعدم تقريبا نظرا لما يتعرض له منذ نعومة أظافره من صدمات وتجارب لم تخطر بالبال يوما.
 
يتعلم خلال رحلته على متن قطار الحياة أن الحياة تشبه إلى حد كبير ذلك القطار، ستصعد وحيدا أو مرافقا، ستتعرف على أشخاص، تتجاذب معهم أطراف الحديث دون أن تعرف أسماءهم، ربما ستتكلمون عن السياسة والفن و العلوم وغيرها، سينتهي الحديث وسينزل رفاقك الذين شاركتهم الكثير في مدة زمنية قصيرة لدرجة أنك أحسست أنك تعرفهم منذ زمن، سيتوقف القطار ويستأذن الرفاق، سينزلون ويتركونك وحيدا دون أن تسأل عن أسمائهم ولا أي معلومة تدلك عليهم. ربما كان ذلك أفضل، الذكرى دون أسماء أفضل من ذكرى تخط ملامحها الأسماء. سيصعد آخرون ويسألونك إذا كان المكان شاغرا، سترد عليهم بالإيجاب، ستحاول أن ترتاح وأن لا تكلم أحدا، لكن سرعان ما ستنصهر في تلابيب الحديث دون أن تكون لديك نية مسبقة لذلك أو ربما تكون.
 

يحرق الرحيل الوجدان ولو كانت العودة مضمونة، فما بالك برحيل دون عودة؟ وجه ألفته وصوت اعتدت على سماعه كل يوم سينطفىء ذات يوم لتظل الصدمة جاثمة عليك إلى أجل غير مسمى

ستعيد الأسطوانة نفسها، يتوقف القطار، يصعد ناس وينزل آخرون، سيلتقون على السلالم، سيفتح الصاعدون المجال للنازلين وهكذا دواليك. تجد نفسك وحيدا في كل مرة ثم ترزق بمن يؤنس وحدتك لفترة من الزمن ثم يغادر كما غادر الآخرون، حتما يحين وقتك وتغادر بدورك. القطار وكما تشاهده وأنت تغادر لم يشبه ذلك الذي كنت على متنه، لم تلاحظ أنك كنت قريبا شيئا ما من الباب وأن جدران القطار كانت متسخة، أنك كنت تجلس قرب النافذة، كما العادة، لكن إن سألوك عن الطريق فلن تتذكر شيئا على الإطلاق.
 
ربما ستنسى معطفا أو مظلة أو كتابا أو شيئا عنى لك الكثير ثم ترحل تاركا ذكريات جميلة وحوارات شيقة لا تتذكر أسماء أصحابها، وليست عندك أدنى فكرة عن الصراحة التي اتسمت بها خلال هذه الرحلة الطويلة، وكأن أولئك الغرباء الذين لا نتذكر أسماءهم ولا نعرف من هم هم الوحيدون الذين يستحقون صراحتنا في لحظة تكلمنا فيها دون قيد. مهما طالت الرحلة، ستنتهي في لحظة ما، ستنزل وحيدا، وتمشي على حافة الرصيف وحيدا كما صعدت.
 
تعرفت على الموت في سن الرابعة أو الخامسة، لم أعد أذكر سوى أن وقتا طويلا مضى منذ تلك اللحظة. خطف الموت الذي لم أكن أعرف ماهيته وقتها صديقة صغيرة من الحي، كنا نلعب سوية ونتقاسم كل شيء إلى أن غابت ذات يوم، ذهبنا نطرق بابها ليخبرنا أخوها آنذاك أنها مريضة وستعود للعب قريبا. عدنا إلى مشروعات ألعابنا وأدوارنا التي نتقمص خلال اللعب ونسينا "حفصة" شيئا ما. خيم حزن رهيب ذات يوم على الحي، منعتنا أمهاتنا من اللعب، ارتدين جلاليبهن وأخذننا إلى بيت حفصة الصغيرة، سمعت حينها صوت القرآن يفرض الصمت على الحاضرين، رأيت أطفالا آخرين يأكلون خبزا وعسلا وسمنا وُضع فوق الطاولة، رأيت نساء عيونهن حمراء كشقائق النعمان، كان أخ حفصة يبكي كذلك.
 
صحيح لم أكن أعرف ماهية الموت، لكن فهمت أن حفصة ليست على ما يرام. انعتقنا من أحضان أمهاتنا وبدأنا اللعب في بيت الجنازة كأن شيئا لم يكن. التحق بِنَا طفل أكبر منا قليلا اتضح أنه من أقارب حفصة، سألناه ما بها، ليخبرنا أن الموت خطفها بعد أن ارتفعت حرارتها كثيرا بسبب الشمس لأنها كانت تلعب لساعات طويلة في الحي. فهمنا أن الموت هو أنك لن تستطيع رؤية ذلك الشخص بعدها، وفهمت أنا أن اللعب يمكن أن يقتل. عدت إلى حضن أمي بعد أن فعلت بي دهشة التعرف على الموت ما أرادت. رأيت رجلا متقدما في السن تخط التجاعيد ملامحه يقف قرب الباب، سألت أمي "ماما، أذلك الشيخ هو الموت؟".
 

لم تجبني أمي لأنها كانت تبكي، ولم أخرج إلى حينا للعب بعد ذلك اليوم مطلقا. شاءت الأقدار أن تطرق الموت بابنا بعدها لمرات عديدة، أفراد من العائلة، معارف، عجزة، أصدقاء وغيرهم. في كل مرة، لم يكن للموت معايير يختار انطلاقا منها من عليه الرحيل، كان يدق باب الصغار والمسنين والمرضى والأصحاء والكريم والبخيل والحزين والسعيد والمرأة الحامل التي لديها أولاد والمراهق الذي فتح عينيه على الحياة والأب معيل أسرة. لم يكن هناك معيار، كان هناك قضاء وقدر. لكن، ورغم تكرار ظاهرة الموت إلا أن الألم الذي يخلفه يتفاقم في كل مرة، وكأن هناك جمرة عالقة في روح الإنسان يزداد وهجها كلما انطفأت شمعة شخص تعرفنا عليه عن قرب أو ربما لأن ذلك يذكرنا أن الموت مهما تأخر سيطرق بابنا يوما دون حتى أن نكون واعين بذلك.
 

الفقد سم يقتل شيئا في الإنسان، لكن يتركه على قيد الحياة.. فتصبح الموت لا قدّر الله أهون من فراق نزع النوم عن الجفون، وترك الروح تتخبط في ذكريات حلوها مرّ ومرّها حلو
الفقد سم يقتل شيئا في الإنسان، لكن يتركه على قيد الحياة.. فتصبح الموت لا قدّر الله أهون من فراق نزع النوم عن الجفون، وترك الروح تتخبط في ذكريات حلوها مرّ ومرّها حلو
  

قال الفقيه علي الطنطاوي رحمة الله عليه: "عشت في بداية عمري مع والدي وكنت أظن أنني لا أستطيع مفارقته ولا العيش من دونه. توفي والدي وعشت مع إخوتي وظننت أنني لا أستطيع مفارقتهم، فتزوجوا وعاش كل منهم مع أسرته وأنا كذلك تزوجت وأنجبت وظننت أنني لا أستطيع مفارقتهم فتزوجوا وكل منهم كون أسرة وذهب في سبيله، فعلمت أن لا شيء يبقى مع الإنسان إلا ربه، فكل الصِّلات تنقطع إلا صلتك مع رب العالمين". لخص الطنطاوي هنا حياة المؤمن الذي يبدأ وحيدا في ظلمات الرحم وينهي حياته وحيدا، سيرحل الأهل والأحباب ذات يوم ولن يبقى معه شيء إلا عمله في الدنيا وعلاقته مع خالقه.

 

يحرق الرحيل الوجدان ولو كانت العودة مضمونة، فما بالك برحيل دون عودة؟ وجه ألفته وصوت اعتدت على سماعه كل يوم سينطفىء ذات يوم لتظل الصدمة جاثمة عليك إلى أجل غير مسمى. يروى عن جِبْرِيل عليه السلام أنه خاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- قائلا: " يَا مُحَمَّدُ أَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ؛ فَإِنَّكَ مُفَارِقُه، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ؛ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَعِشْ مَا شِئْتَ؛ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ".

 

الفقد سم يقتل شيئا في الإنسان، لكن يتركه على قيد الحياة.. فتصبح الموت لا قدّر الله أهون من فراق نزع النوم عن الجفون، وترك الروح تتخبط في ذكريات حلوها مرّ ومرّها حلو. والفراق مر كالحنظل، ساخن كالنار، بارد كالصقيع، لكنه سنة الحياة، سنفقد ونُفقدُ وتستمر الحياة، لا شيء سيجعل الآخرين يتذكروننا سوى عمل صالح وخُلُق طيب ودعوات صالحات تمسح نسماتها عن قبورنا الغبار والنسيان بين الحين والآخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.