شعار قسم مدونات

أحمد المُطارد.. ناقوس الخطر الذي دق بالضفة!

مدونات - أحمد جرار

دعوكم من روايات البطولة المزخرفة، والهالة المحيطة بشخص مَنْ قرر سلوك هذا الدرب، واتركوكم من تراكيب الروايات، ومشاهد الخيال المغرق في بناء شخصية البطل، وتعالوا نتحدث ببساطة المشهد وسهولته الممتنعة. هذا شاب عشريني، بهيأته المنطلقة نحو الحياة، بصورته المشهورة الملوحة من خلف مقود سيارة حديثة، بلباسه العصري، وقصات شعره المتموضة، في ليلة واحدة أصبح المطلوب الأول في الضفة الغربية.

 

المتمعن في سيرة الشاب، لا يستطيع أن يتجاوز تاريخ العائلة المقاوم، والأيقونة التي لم تلقِ السلاح في وجه الاحتلال رغم الأطراف المبتورة، فعادت سيرة الطيار جعفر في جنين، بعد ١٤٠٠ سنة، حية على الأرض، ولم تبق حبيسة كتب التاريخ ومنابر الجمعة، والحديث هنا عن والده، نصر جرار. 

 

يتحلل هذا المقاوم من كل ما يمكن أن يجذب مقتبل عمره للحياة، ليكون القربان القادم في مسيرة الشهداء الصاعدة إلى الجلال. لا يبدو الأمر رومانسيا كما ننمقه نحن معشر الكُتّاب

لكن تحول شاب في مقتبل العمر إلى مطلوب أول، لا يحتاج في كثير من الأحيان إلى تاريخ زاخر ومليء، بل ربما يصدمه موقف على حاجز عسكري للاحتلال، أو ربما مشهد من مشاهد الأخبار التي تعج بها شاشاتنا. لا أحد يستطيع توقع تلك اللحظة التي تشبه في الفيلم السينمائي نقطة تجاوز العتبة -بعد قليل من التردد- ومن ثم يكون بعدها قرار دخول الصراع، قرار اللاعودة، هذه اللحظة عصية على التوقع، وأما الأكثر عصيا على التوقع فهو بطل اللحظة، والمطلوب المتحول.
 

وأما عن التردد، فهو حاضر حتى في أبهى صور البطولة والفداء، هو الذي يجعل للعمل طعما قريبا مختلفا، ذا نكهة قادرة على إبهارنا وأنسنة البطل. من أولى الكلمات التي تسمعها وأنت تتابع أخبار ذاك الشاب أنه لم يكن يتوقع أي منها أن يصدر هذا الفعل عن "أحمد" المرفه المتمتع بالحياة، ولكن في ظاهرة طوابير الشهداء ورواد عمليات الطعن الذين خلطوا الأوراق، وغيروا معايير التوقع لدى الاحتلال ولدى المواطنين. من كان يظن أن فتى ببنطال ممزق وقصة شعر غربية يخبئ في جنباته سكين انتقام وطعنة مقاوم؟
   
من كان يظن أن هذا الخارج من بيته، بهيأة لا توحي بعظمة الفعل القادم، قد خط وصيته على ورق دفتر وبحرف يستعصي على الفهم؟ قد حمل على كاهله ظروف المرحلة، وتعقيدات الوضع في الضفة الغربية، وتهديد العقوبة الجماعية. خرج من البيت الذي لن يعود له إلا جثمانا محمولا أو أسيرا محررا ـبعد عقودـ وليس إلى البيت نفسه، بل إلى ركامه بعد الهدم.
    

الشاب
الشاب "أحمد جرار" مطارد من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي (مواقع التواصل)

  
يتجاوز هذا المقبل على الفعل المقاوم "باهظ الثمن" دموع أمه التي غنى فيها مارسيل خجله إذا ما مات، و يلقي هذا المبادر بحفنة سنينه العشرينية خلف قضبان تنتظر انتهاء المحكومية أو انقضاء الأجل أو صفقة مشرفة، ويتحلل هذا المقاوم من كل ما يمكن أن يجذب مقتبل عمره للحياة، ليكون القربان القادم في مسيرة الشهداء الصاعدة إلى الجلال. لا يبدو الأمر رومانسيا كما ننمقه نحن معشر الكُتّاب وأصحاب الحرف المتلون، فحمل الروح على الراحة يتجاوز بيت الشعر الذي سيلقي بها في مهاوي الردى، وينتقل بالقصيدة إلى مهاوي الفعل وليس فقط راحة الترداد والتغني.
     
ومهما بالغ معشر المحللين، سواء النفسيون أو المجتمعيون أو السياسيون، فإنهم سوف يصلون لأسباب منطقية تتنبأ بفعل لا منطقي، ومتى كان منطلق الفعل المقاوم منطقيا ولو خضع لحسابات المنطق وموازين القوى التحليلية؟ إن شابا في أوج مراهقته يستطيع على الدوام قلب الطاولة وإحداث الصدمة وإرباك الحسابات، وسيبقى يحرك أسئلة في بواطن الاحتلال عن السبب الدافع، والمطلوب القادم، وصاحب الطعنة المستقبلية.

    

يبدو أن نواقيس الخطر ستبقى تدق من قبل جيل منهك، كَبُرَ سريعا قبل عمره، وانتفض من بين رماد البطولات الغابرة، والتي أصبحت كما الأساطير بعد تغول العدو البعيد، وجور القريب. ويبدو أن إبداعات مقارعة الظلم لن تكف عن الظهور في أثواب جديدة ما دام الظلم يحاصر كل المساحات المتاحة. ويبدو أن مطلق الرصاصات على شارع التفافي بين مستوطنتين وحاجز، يبعث بالأمل الجديد بين شعب، ظن أقرب مقربيه أنه انتهى. لكن أحمد العشريني، في الفشل الجديد لقوات الاحتلال عن الوصول إليه، يخلد مقولة جداتنا بأنه لن يكون الأول والأخير، وأن الحبل يا أحمد على الجرار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.