شعار قسم مدونات

محاور التربية القرآنية للفرد المسلم

blogs قرآن

أفرزت الثورة السورية تجمّعات وتكتلات سياسية وعسكرية كثيرة جعلت من الإسلام شعارا ومرجعيّة وأساسا لما تدعو إليه، حيث أعلنت أنّ مبادئ الإسلام وقيمه الشرعية والأخلاقية هي التي تحكم سلوكياتها وآليّة عملها ومواقفها، ولكن الحقيقة أنّ أكثر هذه التشكيلات لم يستطع الوفاء بما أعلنه، فكانت أغلب تصرفات أتباعها بعيدة عن الإسلام بروحه وحقيقته، واقتصرت على شكليات هي من مظاهر وثمرات الالتزام الحقيقي الذي لم يكن موجودا، فأين الخلل؟

الخلل -كما أرى- أنّها لم تلتزم محاور منهج التربيّة للفرد كما بيّنها ربّنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم الذي جعله الله هداية للبشر إلى الطريق القويم، فقد تتابعت آيات القرآن وتتالت بالخير والبركة خلال 23  عاما، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربّي فيها الأمّة التي ستحمل مسؤولية حمل الرسالة وتبليغها للنّاس جميعا، ورسالة بهذه الأهمية والخطورة تحتاج لأناس قد تربوا تربية خاصة، وفق منهج متكامل واضح المعالم يتضمن تربية متوازنة للنّفس من جميع الجوانب، فربى الله تعالى محمدا -صلى الله عليه وسلم- ليربي العرب به، وربّى العرب بمحمد ليربي بهم الناس أجمعين.

كانت المحاور التي ربّى عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمّة كما ذكر الشيخ محمد الغزالي وغيره: ثلاثة تكرر ذكرها في القرآن الكريم أربع مرات، منها ما ذكر في سورة الجمعة: وهو قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" (الجمعة الآية 2) فهي إذا: التلاوة والتزكية والتعليم. 

على المرء أن يتعهد سلوكه بالانتباه والمراقبة بأن يوافق كلامه عملـه وينسجم عمله مع كلامه، في أي موقع كان المرء فيه، وخصوصا من يتصدر لأمانة إعداد النفوس

فالتلاوة: تعني عرض المنهج، وتقديم برنامج، وبيان الطريق، وإعطاء صورة عامة لملامح الإسلام، ورسم خط بياني للأمّة كلّها، فهي التي تعطي صورة للإسلام في عقائده وعباداته وأخلاقه وأعماله، تعرض الإسلام كاملا متكاملا بجميع دقائقه وأسراره.
 

التزكية: وتعني تربية النفوس وتهذيبها بتحليتها بالفضائل والأخلاق السامية، وتخليتها من الرذائل والقبائح، فلابدّ أن تعدّ النفوس التي ستحمل هذه الرسالة السامية، إعدادا يناسب سمّوها وعظمتها، لابدّ أن ترتقي إنسانيتها إلى الذروة في سلم الكمال، ليظهر كمال هذه الرسالة وخلودها وإنسانيتها.

التعليم: ويشمل تعليم الكتاب والحكمة، فإذا كانت التلاوة عرضا للبرنامج، فإن التعليم يشمل التنفيذ العملي، التطبيق الواقعي، تمثّل الإسلام في الحياة، عقيدة وعبادة وسلوكا وأخلاقا ومعاملة، مع المحافظة على التوازن بين هذه العناصر وعدم طغيان بعضها على بعض، من غير إفراط ولا تفريط، فالحكمة تفيد العمل الصحيح المتقبل، وهو يتمّ بصدق النظر، ومع الجهل لا تقوم حكمة، لأنّ الحكمة تقوم بالنظر الصائب وبالحكم الدقيق.

ولعلّ من أهم علل التجمّعات والتكتلات السياسية والعسكرية التي أفرزتها الثورة السورية وجعلت من الإسلام شعارا -لم تلتزم به غالبا- غياب هذا الجانب، غياب هذا النوع من التربية، تربية النفس على التوافق بين الأقوال والأعمال، بين المبدأ والتطبيق، جعل الحياة انعكاسا حقيقيا للإسلام كلِّ الإسلام، الممارسة العملية للإسلام في عقيدته وعبادته ومعاملته وأخلاقه، أن يعيش الإسلامُ واقعاف ي حياة الفرد المسلم.

النّاس يحتاجون أن يروا سلوكا أكثر ممّا يسمعوا كلاما، العمل أبلغ في التأثير من الكلمات، وما نفع الكلام إذا لم يرافقه عمل، وما أسهل الكلام وما أرخصه
النّاس يحتاجون أن يروا سلوكا أكثر ممّا يسمعوا كلاما، العمل أبلغ في التأثير من الكلمات، وما نفع الكلام إذا لم يرافقه عمل، وما أسهل الكلام وما أرخصه
 

إنّ الذين صحّت تربيتهم على هذا المبدأ من الدستور القرآني، فتحـوا بسلوكهم قلوب العباد في مشارق الأرض ومغاربها لهذا الدين العظيم، وهذه الرسالة الخالدة، فدخلوا في دين الله أفواجا، وقد علموا أنّ مثل هذه الأخلاق، ومثل هذا السلوك، لابدّ أن تكون له جذور ضاربة في النفوس من المبادئ السامية الرفيعة، مئات الملايين من البشر دخلوا الإسلام ولم تصل إليهم جيوش المسلمين، وتاريخ الإسلام أشدّ نصاعة من بياض الثلج في ترك النّاس أحرارا في اختيار عقائدهم. 

إنّ الله وصف المخالفة بين الأقوال والأعمال بأنها أكبر من الكبائر فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" (الصف الآية 3) عَظُم أمرا قبيحا أن يتصف المرء بهذه الخصلة الشنيعة. على المرء أن يتعهد سلوكه بالانتباه والمراقبة بأن يوافق كلامه عملـه وينسجم عمله مع كلامه، في أي موقع كان المرء فيه، أبا أو زوجا أو رئيسا أو مرؤوسا، عاملا أو ربّ عمل، وخصوصا من يتصدر لأمانة إعداد النفوس، من آباء وأمهات ومعلمين وعلماء، لابدّ أن يكون هناك اتساق بين القول والعمل، أن تترجم الأقوال إلى أعمال تدل على الصدق والالتزام.

النّاس يحتاجون أن يروا سلوكا أكثر ممّا يسمعوا كلاما، العمل أبلغ في التأثير من الكلمات، وما نفع الكلام إذا لم يرافقه عمل، وما أسهل الكلام وما أرخصه، وما يحتاج المرء إلا أن يحرك شفتيه، ليدّعي أنّه بحكمة أبي بكر وعدل عمر وحياء عثمان وشجاعة علي رضي الله عنهم أجمعين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.