شعار قسم مدونات

إشكالية عودة جيش محمد

blogs فلسطين

من أكثر هتافات المتظاهرين في العالم العربي ترديدا هتاف "ويلا ويلا يا يهود، جيش محمد سوف يعود" أو "خيبر خيبر يا يهود: جيش محمد سوف يعود". هذا الهتاف الذي استمعت إليه كثيراً في سنوات دراستي الثانوية والجامعية في مدينة القاهرة، ثم في مناسبات عدة لاحقة تنديدا بالاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، أو تدمير مفاعل العراق أو استباحة مرتفعات الجولان أو اجتياح لبنان.

 

كان وما زال هذا الهتاف يحفزني دائما للتساؤل عن جدواه وتكرار النداء به على الرغم من استحالة تحقيق محتواه. لم ولا أفهم ما معنى أن جيش محمد سوف يعود! هل هذا الجيش هو كيان أسطوري فضائي خارق سيستدعى بأوامر إلهية لنصرتنا نحن المسلمين المتفردين المتميزين الفارقين في المشروع الإنساني العالمي؟ لماذا أمتلك اعتقادا شبه يقيني أن عودة جيش محمد -عليه الصلاة والسلام- هي عودة أسطورية تدخل فقط في بند المصالحات الجماعية والمهادنات الشعبوية والمهدئات العربية والملطفات الإسلامية؟

الجيش بمعناه العميق وخاصة عندما يرتبط باسم رسول الله فهو في الواقع جيش حضاري تنويري معرفي ثقافي، جيش يتجاوز بمراحل المفهوم الكمي للجيش المرتكز على عدد فرقه وأفراده، وكمّ تسليحه وعتاده

أقدم لدعم وجهة نظري سردية ذاتية تتأمل حال الأمة العربية الإسلامية، وتبدأ من المشهد الأحدث حين أعلن الرئيس الأمريكي ونائبه لاحقا أن القدس هي العاصمة الأبدية للكيان الصهيوني وأنهما يعتذران عن التأخر غير المبرر للقرار. حقا، ففي إطار أزمة القدس الأخيرة، وهو الأمر الذي ما زال متفاعلا وحيا في ذاكرتنا القريبة، فقد تبين للمراقب الصادق المخلص، وبصورة جلية أن حتى غياب القدس وللأبد لن يعيد جيش محمد. بل إننا ونحن الشعوب العربية المسلمة قد تصلبنا وتيبسنا ما عدا قلة قليلة تبعثرت أصواتها في الفضاء العريض.

 

أما كل الزعماء الذين طالما تشدقوا بأن القدس هي أعظم الخطوط الحمراء، فقد تنافسوا في بيان أهمية الهدوء والتروي وترك المبالغة جانباً والتزام العقلانية والواقعية في التعامل مع هذا الملف الذي يتطلب الحكمة تبعا للتعبيرات المستخدمة في الخطاب العام. بل إن بعضهم اقترح مشروعا بديلا رأى في مدينة رام الله مستقبل العاصمة الفلسطينية، ومن ثم ينتهي الاحتياج إلى القدس. واجتهدت الآلة الإعلامية للتسويق الشعبوي لهذا المقترح البديل.

دعني أبدأ بوضع إطار تنظيمي ومعرفي لفهم مصطلح الجيش، وخاصة الجيش المحمدي بقيمته الإنسانية والرمزية والعقائدية الممتدة، وليس فقط العسكرية المحدودة. إن الجيش بمعناه العميق وخاصة عندما يرتبط باسم رسول الله فهو في الواقع جيش حضاري تنويري معرفي ثقافي، جيش يتجاوز بمراحل المفهوم الكمي للجيش المرتكز على عدد فرقه وأفراده، وكمّ تسليحه وعتاده. وينطلق إلى آفاق تستوعب الجيش كمجموعة من الأحرار والعلماء والمفكرين والناقدين والعاملين بإخلاص والمنتجين بكرامة وليس فقط أصحاب الرتب والبنادق والقافزين فوق الدبابات.

 

على سبيل المثال؛ فإن السعودية هي الدولة الرابعة وأحيانا الثالثة على مستوى العالم في معدل الإنفاق السنوي على التسليح. نعم أرض الحرمين الشريفين تنفق عشرات المليارات سنويا، ومنها الصفقة الأخيرة مع ترمب التي تضمن له فقط إنفاق المملكة ما يتجاوز الأربعين مليار دولار أمريكي سنويا على التسليح. نعم السعودية تنفق على التسليح بل وتتفوق بفارق مريح عن معدلات إنفاق التسليح السنوية لدول مثل إنجلترا وفرنسا واليابان وألمانيا وإيطاليا وأستراليا وحتى كوريا الجنوبية.

 

كيف نتوقع عودة جيش محمد وكم القيود على الإنسان العربي غير مسبوق؟ نحن نعاني من انعدام الحرية بكل مستوياتها؛ من حرية التفكير إلى حرية التعبير إلى حرية العقيدة ووصولا إلى حرية الرأي
كيف نتوقع عودة جيش محمد وكم القيود على الإنسان العربي غير مسبوق؟ نحن نعاني من انعدام الحرية بكل مستوياتها؛ من حرية التفكير إلى حرية التعبير إلى حرية العقيدة ووصولا إلى حرية الرأي
 

الأكثر خطورة أن هذا الإنفاق يمثل من 10-12 في المائة من إجمالي الدخل القومي، بينما لا يزيد في ألمانيا عن واحد في المائة من إجمالي الدخل فقط. بل إن السعودية تنفق خمسة أضعاف ما تنفقه إسرائيل على التسليح سنويا. ولكن هل تجرؤ السعودية على أن تستعيد فكرة جيش محمد بشقه الكمي أو النوعي؟ الإجابة يقينا لا، بل إن الأكثر مدعاة للحزن والأسى أن السعودية في تاريخها المعاصر لم تُفعل فكرة وجود الجيش أو القوات المسلحة إلا مرتين؛ الأولى وهي تقتحم البحرين الجارة في أعقاب تداعيات الربيع العربي، والثانية وهي تعيد اليمن السعيد إلى حقبة العصر الحجري وزمن الكوليرا.

ما هي إذن الدلائل التي تبدو أبدية على استحالة عودة جيش محمد -عليه الصلاة والسلام- الذي نهتف باسمه ونستدعيه في الأوقات المحدودة التي سمح للعرب والمسلمين فيها بالتظاهر في الفضاءات العامة؟ أسوق لكم مجموعة من الاجتهادات التي تبلور الموقف الذي أتبناه في هذا السياق.

أولا: الغياب الكامل لمشروع الحرية وقيمتها في العالم العربي

كيف نتوقع عودة جيش محمد وكم القيود على الإنسان العربي غير مسبوق؟ نحن نعاني من انعدام الحرية بكل مستوياتها؛ من حرية التفكير إلى حرية التعبير إلى حرية العقيدة ووصولا إلى حرية الرأي. والبديل الأكثر وضوحا هو سيطرة ثقافة الخوف التي تزدهر خلالها قيم النفاق والرياء والانصياع المذل والقهر. غياب الحرية معناه اندثار الإبداع وضمور حقوق الإنسان وسقوط كل القيم.

ثانيا: سذاجة المشروع المعرفي العلمي التعليمي
تنتج إسرائيل إنتاجا معرفيا وبحثيا معمليا وتقنيا مذهلا كل عام، وخاصة مع اعتبار عدد سكانها وحجم جامعاتها وعدد طلابها وأكاديمييها

تأمّل تصنيف مدارسنا وجامعاتنا العربية ومكانها في السياق العلمي والتعليمي العالمي فتصاب بأم الصدمات. بل إن مصر العريقة التي كانت قلب الأمة العربية والإسلامية النابض المفعم بالحيوية، خرجت من التصنيف تماما بعد أن احتلت سابقا المركز 140 على العالم. ما بين مناهج هزيلة تعتمد على الحفظ والتلقين ومستنقع الدروس الخصوصية وانعدام كرامة المعلم، ننتهي بمخرجات مخجلة من العملية التعليمية المدرسية والجامعية. الأخطر، إن العمل البحثي والإبداعي الذي يؤسس للطموحات التنموية والصناعية والتكنولوجية شبه منعدم، بل إن معظمه تكرار واجترار لكل ما كتب سابقا، أو إنه نقل أو بالأحرى سرقة لما نشر عالميا.

 

في هذا السياق، نتوقف أمام اليهود وخاصة في دولة إسرائيل التي نتوقع أن يهددها جيش محمد بالويلات ويسحقها للأبد. تنتج إسرائيل إنتاجا معرفيا وبحثيا معمليا وتقنيا مذهلا كل عام، وخاصة مع اعتبار عدد سكانها وحجم جامعاتها وعدد طلابها وأكاديمييها. لقد أصبح لجيش علمائها وباحثيها ثقل فارق ليس فقط على المستوى المحلي، ولكن على المستوى الدولي. وهو ما جعلها وخاصة جامعاتها ومراكز أبحاثها ملتقى للعلماء من كل العالم، ومنطقة جذب للمنح البحثية ومحور اهتمام شركات الصناعة الكبرى التي تسعى إلى حلول ابتكارية لتحدياتها وطموحاتها.

ثالثا: عقاب الناقد بإقامة الحد

لا يمكن أن يعود جيش محمد أبدا ونحن نُحرم النقد ونعاقب الناقد ونعتبر التفكير النقدي بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. حتى أيام الرسول عليه السلام كان النقد والحوار وتباين الآراء هي القيم الأهم في علاقات المسلمين الأوائل وحرصهم على التباين الفكري. ولم ينهار المسلمون وتتساقط قدراتهم إلا مع بداية الموجات التسلطية الديكتاتورية التي أنتجها أفراد وزينوها بغلاف ديني من صنعهم وصنع من حولهم من منافقين ومستفيدين. وهو نفس السياق الذي نراه اليوم تقريبا في معظم بقاع العالم العربي المسلم.

رابعا: انتماء الأغاني مقابل انتماء الأوطان

يصعب على جيش محمد أن يعود بينما مكونه الأكثر أهمية وهو الشباب ممزق بين وطن يسجنه ويعاقبه ويذله ويسحقه وبين حلم ملح للخروج والهجرة. يتألم الشباب العربي وهم يقولون له إن الانتماء للوطن معناه أن تضحي من أجل الزعيم الديكتاتور وعصابته الناهبة الفاسدة القاسية. وأن الانتماء للوطن هو أن تردد أوبريت القدس عربية. حقا يتحسر الشباب حين يؤمرون بأن يرددوا يحيا الوطن ثلاث مرات كل يوم بينما منهم من هو عاجز عن شراء دواء أمه المطلوب أيضا تعاطيه ثلاث مرات كل يوم.

 

عودة جيش محمد الذي يمكن أن يهدد اليهود ويعيد القدس ويجد موطناً أبدياً للفلسطينيين، تتطلب شعوباً حرة واعية، ومناخا علميا معرفيا ناضجا ومنافسا، وديمقراطية مترسخة وعدالة ناجزة ومجتمعا متوازنا
عودة جيش محمد الذي يمكن أن يهدد اليهود ويعيد القدس ويجد موطناً أبدياً للفلسطينيين، تتطلب شعوباً حرة واعية، ومناخا علميا معرفيا ناضجا ومنافسا، وديمقراطية مترسخة وعدالة ناجزة ومجتمعا متوازنا
 

شباب يتم تخديرهم كل يوم بأكذوبة لا تقل ماذا أعطاك الوطن، ولكن قل ماذا أعطيت للوطن؟ يُطرح عليه التساؤل بمنتهى القسوة وهو فاقد الأمل والعمل والمستقبل، بينما يرى حفنة محدودة من المستفيدين مقاولي الاستبداد ومتعهدي النفاق يتمتعون ويسعدون ويبشرون الشباب بكل الخير شريطة الانتظار الأبدي. هل هذا سياق يعيد جيش محمد؟ هل هذا شباب يخيف إسرائيل أم أنه شباب تلتقط جثثه الطافية في عرض البحر بعد فشل موسم الهجرة للشمال.

هل اكتمل المشهد أمام أعينكم، وبدأتم في استشعار صعوبة بل واستحالة عودة جيش محمد طالما بقينا في ضبابية تزييف الواقع وتجميل القبيح واتهام الصادق وسحق المحترم وسجن المعترض وتشويه المُنتبه؟ إن عودة جيش محمد الذي يمكن أن يهدد اليهود ويعيد القدس ويجد موطنا أبديا للفلسطينيين، تتطلب شعوبا حرة واعية، ومناخا علميا معرفيا ناضجا ومنافسا، وديمقراطية مترسخة وعدالة ناجزة ومجتمعا متوازنا سويا. والأكثر أهمية هو أن العودة تتطلب سقوطا كاملا لأسطورة الزعيم المؤمن المُلهم الواحد المستمر إلى أن يلقى حتفه دون أن يرى عتبات القدس، وغالبا قد تصعب عليه رؤية وجه محمد لأنه بكل بساطة لا يستحق، فلم ولن يكون أبدا منتميا لجيش محمد عليه الصلاة والسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.