شعار قسم مدونات

تحت ظل آية (2)

blogs صلاة و دعاء

"فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ"..

نحن لا نقومُ بعضَ مقامِ الأنبياءِ إذا حملنا أمانة الاستخلافِ واخترنا سبيلَ الدعوةِ والإصلاحِ فقط، بل نتلقى من الوحي شذراتٍ وقطرات بالقدر الذي يعيننا على المضي قدما ويبدي لنا مَعالم الطريق، فالوحي الذي يربطنا بالسماء ويمدّنا بالتعليمات قد يتقمّص الإلهامَ والإشارة والرسائل العابرة التي لا يُوليها الكثيرونَ أدنى اهتمام، فضلا عن فهمِها وأخذها على محمَلِ الجد.

 

تحيط بنا كل يوم عشراتُ الرسائل التي تتيحُ لنا المداخل وترفع لنا لافتات شديدة الوضوح، لكي نهتدي بها إلى ما يُراد لنا إدراكه وإيجاده، فتدلّنا على سبيل الفِعل كموسى "فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ" حتى "ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ"، أو الأخرى التي تهدينا إلى المخارِج وتصدّنا عن الفعل كيوسف "لَوْلَا أَنْ رَأَى"، فتنتصبُ عند المنحدرات لتلوّحَ لنا بالانصرافِ وعدمِ المواصلةِ والإلحاحِ في التقدّمِ الغافِلِ الجاهلِ للمآلات، حتى "لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ".

 

ذلك أن كلَّ ما يُحيط بنا من جماداتٍ ومخلوقات إنما هُنَّ "مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ" وحكمتِه لمرافقة سعينا الحثيث نحوَ إيصال الرسالةِ الكبرى "وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ". فإذا حدنا عن الطريق وانحرفت بوصلتنا وجنحت سُفننا "جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ" فزلزلتْها بالمصاعبِ والمصائِب لتعيدَ اكتشافَ ذاتها وبسط أشرعتِها من جديد.

 

عندما أرادَ الله أن يدل عبده موسى على الخضر عليهما السلام، فجعلَ دليله عليه وسائقه إليه حوتا يقفز من دلوِ غلامه ليتخذَ طريقهُ في البحر عجبا، لذا فالعجائبُ في رسوم وأساليب تلكَ الرسائل لا تنقضي

تضربُها سيولُ الابتلاء "وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ"، فتحيطُ بها "مِن كُلِّ مَكَانٍ" لا لتغرقها ولكن لتنقذها من نفسِها المُوثرة للدعَة والركود، الآخذةِ بها نحوَ الغرقِ والإمعانِ في الانحرافِ عن المسار، والاستسلام للخيارات الخاطئة والمثلثاتِ التي تلتهمُ الرّوح، يأخذ تراكمُها كل سفينة إلى الهامش والبطالة غصبا، ما لم تنتفض وتتمرد لتدرك أنها أكثرُ من مجرّدِ أخشابٍ اجتمعت عبثا، ثم طفت بذلك المحيطِ صُدفة، لغيرِ غاية أو مهمة!

 

فلو أننا أعملنا بصائرنا فيما يحوم حولنا ويهطل علينا من دقائق الأمور والمواقف والأصوات التي نتجاهلها لاختصرنا على أنفسنا الكثير، ولأدركنا أيضا أن هؤلاء الذين صدفَ أن التقيناهم يومَ كذا، أو تقاطعَت سُبُلنا بهم ذاتَ مرةٍ أو عثرةٍ أو شعرنا بأننا نعرفهم إثر نظرةٍ أولى، ليسوا مُجرّدَ أقدارٍ سَعيدة حظينا بها، بل كانوا هدايا من السماء للأخذِ بأيدينا في لحظاتٍ لو أمعنَ أحدنا النظرَ في تفاصيلها لاعترتهُ الدهشة لدقة توقيتها، إذ تأتي دائما بالوقتِ المُناسِب بدقّة عجيبَة، قليلا فقط قبلَ أن نرضخَ ونفقد الرغبةَ بالمواصلة.

 

فكما أرسلَ الله غرابا ليُرِيَ قابيل كيفَ يُواري ويدفن أخاه، يَبعثُ لنا من الأقدارِ في هيئة بشرٍ أو أثر ما يرينا كيفَ ننتشلُ ذواتنا، ويدلّنا على مَكانِ التنقيبِ الصحيحِ عنا، بدلَ الخبط هنا وهناك ثم التعب ثم الاستسلام لليأس.

 

فإن كانَ الإرشادُ في الحالةِ الأولى رهنًا لبيئةٍ ليسَ فيها مِن سواهما كثيرُ بَشَر قد استدعى توسيطَ عواملَ أخرى لتقوم مقامَ حاملِ البريد، فقد لا يكون ذلك ضروريا في الحالةِ الثانية ودُنيا الناس عامِرَةٌ بهم، غيرَ أنك لا تدري بأيّهم يكونُ اقتيادك إلى المعنى وإرشادك، كما لم يخطر في ذهنِ الأول أن يعلّمَهُ غرابٌ لا يرقى إلى ما عندَه من المدارِك الحسّية والعقلية، فقالَ يا ويلتا أعجزتُ أن أكونَ مثل هذا الغراب؟ أيغيبُ عني ما يعرفه هوَ فأستدلُ به وأقلّده وأحذو حذوه وأنا من أنا!

 

غيرَ أن تقدير الله في ذلك لا يخضعُ لمقاييسنا الأرضية، قال تعالى "إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا"، ولاحِظ عندما أرادَ الله أن يدل عبده موسى على الخضر عليهما السلام، فجعلَ دليله عليه وسائقه إليه حوتا يقفز من دلوِ غلامه ليتخذَ طريقهُ في البحر عجبا، لذا فالعجائبُ في رسوم وأساليب تلكَ الرسائل لا تنقضي.  

 

ومن وحي الآية

إن الله قد جعلَ غرابا مستودعا لرسالته وبعثه لإيصالها فكيفَ لا تكونُ أنتَ مُستودَعا لها، فهي في متناول الجميع، إلا من أبى منهم أن يُطهّرَ جوفَهُ لها ليحتويها، وأن يُوقِفَ وقتهُ عليها لرعايتها فيه وتبليغها به، وأن يُطيلَ نَفَسَه في حملِها وتوصيلِها، كأنما يُجدّف في بحرِها المُمتَد بملعقَة، ويَسقي حقلَ أرُزِّها الفسيحِ بِحبّاتِ العَرَق، لا يتخلّى عنها ولا يبخسُها حقها من الانتظار والاصطِبار، فسبحانَ الله كيف يستكثر الإنسانُ على نفسِه أن يكونَ حاملا لرسالةٍ حملتها الغربان والحيتان.

 

وتحتَ ظلّها كذلك

إن للدعوةِ والتوجيه أساليب وتفاصيل على المُرشدِ أن يتوخاها في حالهِ ومقاله، يهتمُ فيها بحالِ المتلقي لِعِظَتِه بغيةَ لفتِ انتباههِ وتوجيهه لها، فالغرابُ ولونُه وصوتُه أنسبُ وسيطٍ يليق بحالِ القاتلِ المُنهَك لكثرةِ التفكير، والمشغول بالهمّ الثقيل والواقع في ضنكٍ شديد، تتقاذفهُ أمواجُ الحيرةِ للحال والخوفِ من المآل.

 

كيف لا يكشفُ الله لعباده الطريق ويغدق عليهم من كيلِ الجواب وصَدقَةِ المعنى والفتح وقد ركعوا خاضعين عند بابِ الافتقار إليه، لسانُ حالِهم مَسّنا وأهلنا الضّر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوفِ لنا الكيل وتصدّق علينا
كيف لا يكشفُ الله لعباده الطريق ويغدق عليهم من كيلِ الجواب وصَدقَةِ المعنى والفتح وقد ركعوا خاضعين عند بابِ الافتقار إليه، لسانُ حالِهم مَسّنا وأهلنا الضّر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوفِ لنا الكيل وتصدّق علينا
 

فأي لون أليق بحالهِ القاتم من الأسوَد، وأي صَوتٍ أكثرُ من ذلك الصّوت يناسبُ خلفية المشهَد؟ّ وكلّ ذلك مُتظافرٌ متآزر في صورةٍ واحدة مُستفزّة وجاذبة للملاحظةِ والمقارنَةِ والاستنتاج، على ما هو فيهِ من حالِ المُضطرِبِ المرتبِكِ المُتشتِّت بسببِ ما أقدمَ على فعله وتحيّره في أمره، تظافرا بديعا يَنجحُ في إقناعه بقبولِ الدعوة وتلقّي الرسالة والتصرّف وفقَها دونَ مكابرَة وإعراض.

 

ومن لطائِفها

إن الإنسانَ إنما فُضّل على سائرِ المخلوقات لأن جلّها يهتدي إلى أكثر ما ينبغي عليه فعله عن طريق الإلهام والغريزة، وقلّما يستفيدُ من السؤال والمقارنَة، بينما يستطيع الإنسان التعلّم والاستزادة دونما سَقفٍ للاستيعاب، فإذا تخلّى عن ميزة التعلّم والسؤالِ تلك صار كأنما قد اجتمعَ مع بقية الحيوانات على صعيدٍ واحد، فما فائدةُ العقل المُعجز الذي يمتاز به إذا كان معطّلا، وما جدوى الفُضول المقذوف في فكرِه إذا لم يدفعهُ إلى طلبِ الأجوبَة.

 

وأخيرا..

دلَّ اللهُ عبده الواقع في معصيةِ كبيرة على ما يرفعُ غُمّته ويزيل حيرته ويلبّي حاجتَه، وساقَ إليه من الرسُل ما يحلّ مشكلته ويكشفُ كربَتَه، وهو على ما هو فيه من وزرِ المعصية وفداحةِ التجاوزِ والخطيئة.

 

فكيفَ لا يُجيبُ عبادَه الصالحين المؤمنين الراجين رحمته وفتحَه وهدايتَه، فيعينهم في أحوالهم الشديدة، وييسّر لهم سُبلهم الكؤودة وقد استعانوا ب؟ وكيفَ لا يُزيل عنهم الارتباك والتحيّر وقد داسوا بساط إعلانِ الحاجة؟ وكيف لا يكشفُ لهم الطريق ويغدق عليهم من كيلِ الجواب وصَدقَةِ المعنى والفتح وقد ركعوا خاضعين عند بابِ الافتقار إليه، لسانُ حالِهم مَسّنا وأهلنا الضّر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوفِ لنا الكيل وتصدّق علينا؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.