شعار قسم مدونات

لماذا يعتقل الكاتب؟

مدونات - كتابة
منذ الصغر، كنت متعلقة بالقراءة كما أتعلق برداء أمي، كانت لِلّغة العربية سحرها الأخاذ الذي جعلني أحفظ أسماء الشعراء قبل حفظ القصيدة، ويسرقني اسم الكاتب المذيّل أسفل النص قبل أن أعيد قراءته أكثر من مرة.
  
ثم كبرت وتوسعت مداركي الثقافية، وتوجهاتي؛ فهناك رسم وفن وموسيقى ومسرح وغيرها من المراسي التي تحط عليها مراكب المتعبين، ولكنها لم تحدث ذلك الأثر الذي تحدثه فيّ قراءة نص جميل، يسهب كاتبه في السفر عبر الحقائق والخيال؛ إذ إن الكتابة برأيي هي السلاح الأتقن والأجمل والمؤثر والمخيف أيضاً بين الفنون، ولا كتابة عظيمة من غير مخيلة عظيمة.
  
ولكن الحدث الجلل هو ما تحدثه الكتابة في العالم المنغلق الذي يضيّق النفس على الفرد الواحد في سبل عيشه ما استطاع، وإن لم يقوَ على فرض جلّ كَبته وجدتَه يكمّم الأفواه ويكمّم الأقلام أيضا. كنت أتساءل ببلاهة: لماذا يُعتقل الكاتب؟! ومما أثار حفيظة تساؤلاتي هو التاريخ القديم للاعتقالات السياسية للكُتّاب -معتقلو الرأي- الذي لم يبدأ اليوم ولا أمس بل كان سجلا حافلا؛ فالاعتقال السياسي منذ تاريخه كان صورة ديكتاتورية قمعية يستغل فيها ضعف جهة من قبل جهة أقوى سلطة وهيمنة. وهذه الفكرة موجودة في أصغر التجمعات وأكبر الأنظمة.
   

البلد الذي يشجع القراءة لا يفرض ضرائب على الورق، والبلد الذي يتحرر وينادي بالديمقراطية ويغيّر الأنظمة الرجعية لا يعتقل مفكرا تنادي جميع مؤلفاته بالوسطية

التاريخ يعيد نفسه، وصوت التاريخ يعلو والتاريخ لا يرحم؛ فالسيناريو الذي ظهر منذ الستينيات، منذ ازدهار الفكر الثوري وازدهار قمع الرأي معا، ها هو يتكرر الآن بشكل أو بآخر، والجغرافيا المتوزعة في كل بقعة تعطي في كل مرة مبررا مختلفا لما يحدث، فاهتمام أهل الجنوب يختلف عن اهتمام مركز العاصمة بأشياء، ولكن الاعتقال السياسي المربوط بالكُتّاب كان مشتركا ومخيفا أكثر، وكان محط أنظار الجميع في كل بقعة.

    

في الحقيقة، يُعتقل الكاتب إذا ما كانت توجهاته تخالف التوجهات السياسية الفعالة سواء بقوله أو فعله، وربما ما يدور في نفسه ويسمعه جدار قلبه، ولكن السؤال الذي لا جواب له، هو؛ هل كان الاعتقال السياسي بدون حجةٍ اعتقالا إداريا مما جعله قانونيا في نظر السلطة؟! إنهم اعتادوا في بعض المجتمعات على ألا يسأل أحد سوى الكاتب، لذلك هم يُغيّبونه، وذلك قانوني حتى ولو لم يكن، وحتى لو تناثرت الشكوك حول صحة الأدلة.
      
إن استمرار مثل هذه الاعتقالات ضروري لبعض الجهات وضروري للتواجد الطبقي الذي هو بالأساس سلاح البورجوازية، واستمرارها ذو وجهين: أولهما أنها فعالة في تغيير وجهة المُعتقَل وتسييسه لصالح الجهة العُليا، وقد لوحظ ذلك بتغيّر وِجهة الكاتب بعد خروجه من المُعتقل ليكون موعظةً لغيره، ولا أعرف تماما ماذا حدث خلف الأسوار. وثانيهما أنّ الشعب ما زال يكتب، وهذا مؤشر إيجابي على أن الرأي لن يتوقف ولن تخيفه خمسة أو عشرة أعوام من السجن؛ وهذا ما يدفعني للقول إن أهم ما يجب العمل به للتغيير هو البنية الأساسية الفكرية.

    
إذن، فإن للقلم سحره الذي ما زال يشكل بُعبعا يؤرق أعداءه. ومن أفضل ما قد يتم الاستثمار به في مواجهة استئصال الصوت الحر؛ هو استثمار العقل، واستثمار العقل يبدأ من أول ما جاء على محمدٍ: "قرأ"، وفي ظل ما يشهده العالم من تطور تكنولوجي مخيف قلّ فيه التوجه للكتب والقراءة، وجب علينا أن نعيد المشهد وأن نخرج الحرف من ضِلع الكواليس، ولا قراءة عظيمة من غير كتابة عظيمة.
         

يجب أن يكون لنا رأي، وشجاعة في الدفاع عن كل كاتب بأن يكون له حق الكتابة، حتى لو لم نتفق مع ما يكتبه
يجب أن يكون لنا رأي، وشجاعة في الدفاع عن كل كاتب بأن يكون له حق الكتابة، حتى لو لم نتفق مع ما يكتبه
     
وبما أن السياسة لا يمكن فصلها عن أي من محاور الحياة لأنها بالأصل جميع محاور الحياة، فإن الأسباب التي دفعتني لأن أكتب عديدة؛ منها بحثي وراء اعتقال المفكر الدكتور سلمان العودة من قبل السلطات السعودية مؤخرا، وارتفاع ضريبة مبيعات الكتب في بلدي الأردن اليوم. لا أعرف حقا إن كانت الأمور مترابطة بصورة مباشرة، ولكن البلد الذي يشجع القراءة لا يفرض ضرائب على الورق، والبلد الذي يتحرر وينادي بالديمقراطية ويغيّر الأنظمة الرجعية لا يعتقل مفكرا تنادي جميع مؤلفاته بالوسطية!
   
وهنا يأتي السبب المباشر لما ندعوا إليه نحن معشر القراء والكُتّاب الذين لا نقبل إلا أن تخرج الحقائق من مخبئها، السبب المتمثل بالمدافعة عن كل سجين رأي، بأن يكون لنا رأي، والمدافعة عن كل كاتب بأن يكون له حق الكتابة حتى لو لم نتفق مع ما يكتبه، حيث إنه يكتب لتصلك فكرته مخاطرا بحريته المرهونة بمزاجية صاحب القرار. لم يكن الرأي يوما إلا حقا من الحقوق، وللرأي طُرقٌ عديدة يتخذها.
  
فكرت كثيرا بأن السبب الذي دفعني للتعلّق بالنصوص، هو ما دفع غيري لأن يقرأ، ودفع غيري لأن يخشى من القُرّاء.. ومن بوادر الاهتمام بالقراءة ما بدأ يتشكل مؤخرا من مشاريع ثقافية شبابية مصدرها الشعب، ولو أن بعضها لا يهتم بنوعية القراءة إلا أن هناك من يهتم. هذه الأفكار هي تماما ما يحتاجه شباب اليوم للمقاومة، لا أقول وحدها ولكنها الأساس الأفضل، وهي الأمل الذي نرتكز عليه في ظل التقهقر الذي يعيشه عالمنا العربي موتراجعه عظيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.