شعار قسم مدونات

فنيات الترجمة الفورية

مدونات - قواميس
يعيب علي بعض أصدقائي اهتمامي بالقضايا السياسية وإهمال شؤون الترجمة، باعتبار أن الترجمة مادة متخصصة ولا يُكتب عنها إلا قليلا، بينما أغلب المادة المنشورة عبر مختلف الوسائط يطغى عليها الطابع السياسي. لذلك اخترت أن أكتب عن فنيات الترجمة الفورية راجيا أن تكون مفيدة للمترجمين الممارسين وفي نفس الوقت مفيدة أيضا كمادة تثقيفية للمتابعين. 

 
الترجمة عموما هي نقل المعنى من لغة إلى لغة أخرى، سواء أكانت منطوقة أو مكتوبة أو لغة إشارة. أما الترجمة الفورية والتتابعية فتعنى بنقل معنى اللغة المنطوقة، وأما الترجمة التحريرية فتُعنى بنقل معنى اللغة المكتوبة. وأما ترجمة لغة الإشارة فهي تحويل اللغة المنطوقة إلى رموز الإشارة أو العكس، وهي اللغة التي يفهما الصم البكم.
 
سنركز على الترجمة الفورية لنرى ما يحصل من ديناميات، والمهارات المطلوبة من أجل نقل معنى اللغة المنطوقة إلى لغة أخرى منطوقة أيضا في وقت واحد. ولعل ما يميز الترجمة الفورية عن الترجمة التتابعية أن الفورية تزامنية: بمعنى أن المتحدث لا يتوقف، بل يواصل الحديث ليقوم المترجم بنقل المعنى إلى لغة أخرى في نفس الوقت، وهو ما يحصل في المؤتمرات والفعاليات الكبيرة غالبا. وأما التتابعية فيتوقف المتحدث ليتيح الفرصة للمترجم ليقوم بنقل المعنى، وهو ما يحدث في لقاءات الأعمال واللقاءات الفردية أو الدورات التدريبية أحيانا.
 

أصعب اللكنات هي اللكنات الآسيوية وخاصة الهندية واللكنات الأفريقية. ولكي يتغلب المترجم على مشكلة اللكنات يلزم التدرب على مشاهدة البرامج عبر اليوتيوب باللكنات المعنية

كثير من الناس يتساءلون: هل يستطيع كل من يتقن لغتين أن يكون مترجما فوريا؟ الجواب: ليس بالضرورة أن يكون ذلك كذلك، لأن الترجمة الفورية بحاجة إلى مهارات معينة سنتعرف عليها، ولكن الذي يتقن لغتين يمكن أن يصبح مشروع مترجم فوري، ولكن، ماذا نعني بأن يكون الشخص متقنا للغة أجنبية؟
 
الإتقان يعني أن تستطيع التفكير باللغة الأجنبية، بحيث يسري المعنى في الذهن دون التنبه للمفردات. بمعنى أنك لا تحتاج إلى ترجمة المفردات إلى اللغة الأم أو اللغة الأولى ثم استيعابها مرة أخرى. لذلك تجد الكثيرين من الناطقين بالعربية عندما يتحدثون بالإنجليزية يفكرون بالعربية، فتخرج الجمل الإنجليزية ركيكة لأنها في الواقع ترجمة حرفية للغة الأولى.
 
الإتقان يعني أن تستوعب الخارطة الذهنية للغة الأجنبية، باعتبار أن الخارطة الذهنية لأي لغة تختلف عن أي لغة أخرى حتى لو كانت هذه اللغات متجاورة ثقافيا. وهو نفس الشيء الذي يحدث مثلا في لوحة مفاتيح الحاسوب، حيث تختلف الحروف التي تمثل أصوات اللغة العربية عن تلك التي تمثل أصوات اللغة الإنجليزية. والشخص المتقن هو الذي يستخدم لوحة المفاتيح ويتحول من الحروف الإنجليزية إلى العربية والعكس دون عناء.
 
إذن كيف تتم الترجمة الفورية؟ هناك ثلاثة إجراءات تحدث في وقت متزامن تقريبا، ويكون الفرق بينها مقدار كسر من الثانية، وهي:

أولا: الاستماع

ثمة فرق بين الاستماع لغرض التعلم أو الفهم وبين الاستماع لغرض نقل المعنى؛ النوع الأول من الاستماع هو استماع لاستيعاب المعنى بشكل عام، مع التفكير في أمور متشابهة في نفس الوقت. وقد يسرح المستمع أحيانا في هذه الأمور ثم يعود ليركز على ما يسمع مرة أخرى. ولكن النوع الثاني يتطلب التدقيق في الصور البيانية والمعاني الإيحائية للمفردات بالإضافة إلى فهم المعنى المراد وفق السياق، بحيث إذا تغير السياق في الجملة التالية يتغير المعنى. فإذن، المسألة ليست مجرد استماع، وإنما إستيعاب كامل لما يقال من حيث المعنى اللغوي وجماليات اللغة. هذا بالإضافة إلى أن درجة التركيز تكون عالية جدا ولا مجال لأي تفكير جانبي. لذلك لا بد من وجود مترجمين فوريين اثنين في مقصورة الترجمة يتبادلان الأدوار بعد كل نصف ساعة كحد أقصى.

عندما يكون المترجم واعيا وملما بفنيات اللغة، يستطيع أن ينقل المعنى إلى المستمعين وفق مراد المتحدث. ولعل من أهم علامات بلوغ المعنى للسامع أن يكون هناك رد فعل
عندما يكون المترجم واعيا وملما بفنيات اللغة، يستطيع أن ينقل المعنى إلى المستمعين وفق مراد المتحدث. ولعل من أهم علامات بلوغ المعنى للسامع أن يكون هناك رد فعل
  
هناك بعض الأمور التي قد تعوق الاستماع أحيانا وتحول دون تحقيق الغرض من الاستماع؛ ويشمل ذلك لكْنَة المتحدث وطريقة نطقه للمفردات. اللكْنَة قد تكون نتيجة تأثير لغة محلية على اللسان، أو نسخة أخرى من اللغة كالإنجليزية الأمريكية. أصعب اللكنات هي اللكنات الآسيوية وخاصة الهندية واللكنات الأفريقية خاصة غرب أفريقيا بالإضافة إلى الإنجليزية الأمريكية. وللتغلب على مشكلة اللكنات يلزم المترجم التدرب على مشاهدة البرامج عبر اليوتيوب باللكنات المعنية. معوقات الاستماع الأخرى قد تشمل تشويش الصوت من المصدر، لذلك يجب أن على المترجم عدم الشروع في الترجمة إلا بعد التأكد من وضوح الصوت، ويجب عليه أن يعتذر للمستمعين إذا حصل تشويش أثناء الترجمة حتى لا يحسب عليه أي خطأ.
 
ثانيا: التحليل

 ثم يأتي بعد ذلك التحليل، وهو تفكيك الجملة من حيث عناصرها اللغوية والبيانية بغية إعادة تركيبها في لغة أخرى مع الحفاظ على المضمون والشكل بقدر الإمكان. العناصر اللغوية في الجملة مقصود بها معرفة ما إذا كانت الجملة اسمية أو فعلية، وتحديد المبتدأ والخبر أو الفعل والفاعل والمفعول به، ثم معرفة الصفة والحال والجملة/العبارة الاعتراضية. والتحليل بهذا المستوى يمكن المترجم من انتقاء العناصر الأساسية في الجملة لترجمتها. أي بمعنى تطوير استراتيجية أولويات الجملة، بالترتيب حسب ما يسمح المتحدث.
 

ثالثا: الإنتاج

أما الإنتاج وهو الإجراء الثالث فيأتي بعد الاستماع والتحليل، وهو إنتاج كلام المتحدث بلغة أخرى. العناصر الأساسية في الجملة تشكل صلب الموضوع، وبالتالي تعتبر مهمة في تحديد المعنى، وأما العناصر غير الأساسية فيمكن إدراجها في الترجمة أو غض الطرف عنها حسب سرعة المتحدث. ليس ضروريا أثناء عملية الإنتاج أن يلتزم المترجم بنفس عناصر الجملة في اللغة المصدر، بحيث يجوز أن تتحول الجملة الاسمية إلى فعلية والعكس، ويجوز أن يلجأ المترجم إلى استخدام مفردات مختلفة عن تلك التي استخدمها المتحدث مع المحافظة على المعنى وفق مراد المتحدث، ذلك لأنه أحيانا لو استخدم المتحدث المعاني الشائعة للمفردات التي استخدمها المتحدث قد لا يكون المعنى سليما. أفضل استراتيجية للإنتاج هي البحث عن أقصر جملة ممكنة لنقل الكلام إلى اللغة المستهدفة، شريطة أن تكون الجملة المنتجة مُمَثِّلة للمعنى المراد بالضبط في اللغة المستهدفة.

عندما يكون المترجم واعيا وملما بفنيات اللغة، يستطيع أن ينقل المعنى إلى المستمعين وفق مراد المتحدث. ولعل من أهم علامات بلوغ المعنى للسامع أن يكون هناك رد فعل. فمثلا لو ضحك الذين يستمعون مباشرة للمتحدث يجب أن يضحك الذين يتابعون الترجمة خلال ثلاث أو أربع ثوان.

 

ما هي الفنيات التي تمكن المترجم من متابعة الترجمة بسلاسة وبدون تعتعة أو مد الكلام؟

إيجاد الفجوة الذهنية

وهي مساحة ذهنية تمكن المترجم من تخزين الكلام مؤقتا بغية تحليله وإعادة تركيبه بلغة أخرى بما يتوافق مع التراكيب اللغوية للغة المستقبلة وذوق المتلقي في تلك اللغة. من فوائد هذه الفجوة الذهنية أنها تمكن المترجم من الاحتفاظ بالكلام لثوان دون أن يتوقف عن الاستماع للمتحدث، بمعنى أنه يستمع ويخزن بصورة متتابعة. نحن في الظروف العادية نستمع ونستوعب المعنى وننسى ما يقال لنتابع الاستماع، ولكن لو أردنا أن نحتفظ ببعض ما يقال ستضيع علينا الجملة التالية.

 

إذا توقف المترجم منتظرا المتحدث يقول ما يريد ليبدأ الترجمة فإنه سيكون مشتتا بين السعي لفهم مراد المتحدث وبين الترجمة، ولكن إذا بادر المترجم لاستقراء مراد المتحدث فهذا الأفضل
إذا توقف المترجم منتظرا المتحدث يقول ما يريد ليبدأ الترجمة فإنه سيكون مشتتا بين السعي لفهم مراد المتحدث وبين الترجمة، ولكن إذا بادر المترجم لاستقراء مراد المتحدث فهذا الأفضل
  

إذن، مهمة الفجوة الذهنية هي تمكين المترجم من الاحتفاظ بكلام المتحدث لثوان بغية تحليله وإعادة تركيبه في اللغة المستقبلة مع مواصلة الاستماع. ما يحصل هو أنه بمجرد ما تتم الترجمة إلى اللغة المستهدفة يزول الكلام من الفجوة الذهنية ليحل محله كلام آخر بطريقة متسلسلة وبدون انقطاع. وكلما يستطيع المترجم إبقاء الكلام داخل الفجوة الذهنية لأطول فترة ممكنة من أجل التجويد واختيار أفضل الصيغ في اللغة المستهدفة إذا كان المتحدث بطيئا وكلامه مركزا أو مرتبا في تفكيره. ولن يكون ذلك ممكنا إذا كان المتحدث سريعا أو غير مرتب في تفكيره؛ بحيث يقول جملة وقبل أن يكملها يقفز لفكرة أخرى ثم يرجع ليكمل الفكرة الأولى. لذلك يقال إن المتحدث هو الذي يحدد جودة الترجمة الفورية.

 
إذن، كيف نستطيع إيجاد هذه الفجوة الذهنية؟ يمكن خلق الفجوة الذهنية عن طريق التدريب على تعدد المهام، بحيث تعمل أكثر من شيء في وقت واحد. يقوم تدريب خلق الفجوة الذهنية على الآتي:
– مشاهدة فيديو مثلا أو الاستماع لمقطع صوتي (مع التأكد من وضوح الصوت) مع ترديد ما يقوله المتحدث وتسجيل هذا الترديد، على أن لا تتعدى مدة التسجيل خمس دقائق. يقوم المتدرب بالاستماع إلى صوته ومقارنته مع صوت المتحدث للتأكد من دقة المتابعة. يتم تكرار هذه العملية بصورة مستمرة حتى يتعود المتدرب على دقة المتابعة. (مع التنبيه أننا لا نتكلم عن الترجمة وإنما ترديد نفس الكلام المسموع).

– المرحلة الثانية: يأخذ المتدرب ورقة وقلما ويكرر نفس التدريب أعلاه ولكن هذه المرة يبدأ يكتب الأرقم العادية من 100 إلى 1 تنازليا. بمعنى أن المتدرب يقوم بثلاثة مهام في آن واحد: تسجيل صوته والاستماع والكتابة، علما بأن الكتابة لا علاقة لها بالصوت.

– المرحلة الثالثة من التدريب: يتكرر تدريب المرحلة الثانية، ولكن الأرقام التنازيلة تكون رقمين بدلا من رقم واحد، ثم ثلاثة أرقام وهكذا.

 
بهذه الطريقة، يكون المتدرب قد استطاع أن يوجد فجوة ذهنية تمكنه من أداء مهام متعددة في آن واحد دون أن يغلق عقله في لحظة ما.

 

قراءة ذهن المتحدث

المقصود بقراءة ذهن المتحدث أن يتنبأ المترجم بما سيقوله المتحدث، وهذا سيقلل عليه عناء التفكير بمراد المتحدث. إذا توقف المترجم منتظرا المتحدث يقول ما يريد ليبدأ الترجمة فإنه سيكون مشتتا بين السعي لفهم مراد المتحدث وبين الترجمة، ولكن إذا بادر المترجم لاستقراء مراد المتحدث فهو بالتالي يركز جهده أكثر في تجويد الترجمة.
 
إذن، كيف نتمكن من قراءة ذهن المتحدث؟ هناك طرق عديدة تمكننا من قراءة ذهنية المتحدث، من بينها:

المشكلة التي تواجه المترجمين، خاصة حديثي العهد بالترجمة، هي تهيُّب الجمهور. فلو كان من ضمن الحضور وزراء وكبار مسؤولي الدولة مثلا، فإنه سوف يصاب بشيء من الارتباك

– الاطلاع المسبق على المادة: الوضع المثالي هو أن يطلع المترجم على المادة التي ستكون موضوع العرض التقديمي في المؤتمر أو الورشة التدريبية أو المناسبة المعنية. هذه العملية تكون جزءا من إجراءات التحضير التي يقوم بها المترجم بعد إخطاره بالمناسبة المعنية وتأكيدها. الجهات التنظيمية بعضها مرتبة وتدرك أهمية الترجمة الفورية، وبالتالي فإنها ترسل المادة مسبقا ليطلع عليها المترجم. غير أن العديد من الجهات وخاصة في العالم العربي لا تدرك أهمية دور المترجم، وبالتالي تتيح المادة في اللحظة الأخيرة، قبل لحظات من بدء المؤتمر إن لم يكن أثناءه. وإذا ابتنينا على أسوأ التقدير فإن على المترجم الاطلاع على الموقع الإلكتروني للجهة المنظمة بغية التعرف على أبرز الاختصارات وطبيعة عمل هذه الجهة.

– إجراء لقاء غير رسمي مع المتحدث والدردشة معه قبل بدء البرنامج، خاصة في الورش التدريبية المتخصصة، بغرض التعرف عليه ومعرفة لكنته وطريقة تفكيره. هذا اللقاء غير الرسمي كفيل بإزالة الحواجز وتقريب الشقة بين المترجم وبين المتحدث.
 
– التعرف على المفاهيم الأساسية في المجال المعين الذي سيكون موضوع الفعالية؛ فلو كان المجال هو الاستثمار مثلا، فيجدر بالمترجم التعرف على المحاور الأساسية التي ستناقش في الجلسة.

 

إزالة هيبة الجمهور

المشكلة التي تواجه المترجمين، خاصة حديثي العهد بالترجمة، هي تهيُّب الجمهور. فلو كان من ضمن الحضور وزراء وكبار مسؤولي الدولة مثلا، أو مسؤوله الأعلى في العمل، فإنه سوف يصاب بشيء من الارتباك، لأنه سيبدأ يفكر أن هؤلاء الناس سيستمعون إليه، وماذا سيكون تعليقهم؟ هذا التفكير في حد ذاته كفيل بتشتيت ذهن المترجم والإخلال بتركيزه، لذلك فإن أفضل طريقة لتحاشي هذه الحالة هي التعامل مع الجمهور كما لو كانوا من الرجرجة والدهماء الذين لا يعرفون شيئا. ليس المقصود هنا احتقار الجمهور وبالتالي التصرف بما يوحي بذلك أثناء الترجمة، وإنما المقصود إزالة الهيبة والتعامل مع الوضع على أنه أكثر من عادي بغية اكتساب مستوى من الشجاعة التي توفر قدرا من الاطمئنان.

 

تحديد نقطة التركيز

نعني بتحديد نقطة التركيز أن المترجم يتعامل أثناء الترجمة مع لغتين مختلفتين، وبالتالي سيكون التركيز على إحدى اللغتين مسألة تلقائية؛ فلو كان الاستماع للغة الأم فسيكون التركيز على اللغة الأجنبية عند الإنتاج، وإذا كان الاستماع للغة الأجنبية فسيكون التركيز على اللغة الأجنبية لأن الغرض من التركيز هو التأكد من فهم المعنى. ومن الطبيعي أن الإنسان عندما يستمع للغة الأم لا يتنبه للمفردات بقدر ما يهتم بالمعنى، وأما عند الاستماع للغة الأجنبية ينزع المرء تلقائيا إلى التركيز على المفردات ومعانيها. غير أن هذا التركيز التلقائي يتعرض للاضطراب عندما يشتغل المرء في مجال جديد بالنسبة له، أو عندما يشتمل الكلام على أرقام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.