شعار قسم مدونات

بنكيران ليس طائر فينق

مدونات - عبد الإله بنكيران
عبد الإله بنكيران، الأمين العام السابق لحزب "العدالة والتنمية" الإسلامي المغربي، ورئيس الحكومة السابق ليس طائر فينق ولا يمكنه أن يكون كذلك. فهذا الطائر الأسطوري الذي ورد في قصص العرب المتوارثة لم يسبق أن رآه أحد، فهو إذن غير موجود.

تقول جميع القصص التي تحدثت عن هذا الطائر الأسطوري إنه عندما يموت يحترق ويصبح رمادا ليخرج من الرماد طائر جديد يشبهه، لكن حتى في القصص التراثية كان كل رواة الأسطورة يدركون أن الأمر يتعلق بطائر أسطوري غير موجود، وهنا يكمن الفرق بين رواة وشارحي تلك الأسطورة وبين مريدي بنكيران والمعجبين بخطابه السياسي، الذين مازالوا يعتقدون أن الرجل الذي تمت إزاحته من رئاسة الحكومة بطريقة مهينة، وتكالب عليه أقرب إخوانه حتى أسقطوه من أمانة حزبه، عائد لا محالة إلى المشهد السياسي تماما مثل طائر الفينق الذي تقول الأسطورة إنه سينبعث ذات يوم من رماده.

مفاد هذه العودة إلى بنكيران هو خروجه الإعلامي الأخير أثناء انعقاد المؤتمر الوطني السادس لشبيبة حزبه، والرسائل الكثيرة التي بعث بها إلى أكثر من جهة والتي اختزلها هو نفسه في عبارة "بنكيران سيعود حتى من قبره إذا كانت تلك إرادة الشعب". فهذه العبارة هي التي تجعل بنكيران، وليس شخصا آخر غيره، يشبه نفسه بطائر الفينيق المنبعث من رماده. لقد اختار بنكيران، بعد أسابيع من الصمت الاختياري والاعتكاف داخل بيته، أن يعود بقوة مستعملا السلاح نفسه الذي جربه في السابق لتخويف خصومه وإغواء أتباعه، ألا وهو تصريحاته المنفلتة، واستغل منصة مؤتمر شبيبة حزبه لبث رسائله التي أثارت، كما العادة، الكثير من ردود الأفعال المتضاربة والمتناقضة.

قال بنكيران في خروجه الإعلامي الأخير "إذا كان الشعب يريد بنكيران من جديد، فإن بنكيران سيعود من قبره"، هذه العبارة وحدها تعكس الحالة النفسية لسياسي متناقض مع نفسه

فهناك من رأى في هذه الرسائل الموجهة إلى الشعب والدولة والملك والأحزاب وإلى حزبه وقيادة حزبه والأغلبية الحكومية التي يقودها حزبه، بمثابة عودة للرجل الذي شكل ظاهرة صوتية طيلة السنوات الماضية شغل الناس وملأ حياتهم بتصريحاته وقفشاته وقهقهاته المدوية. وثمة من اعتبرها بمثابة نفحة كبرياء صادرة عن رجل مجروح، طعنه الخصوم وخذله الرفاق من الخلف. أما خصومه فقرؤوا في تصريحاته ورسائله مجرد حنين إلى ممارسة هوايته كظاهرة صوتية شعبوية، بعد أن فشل في تكريس نفسه زعيما سياسيا، وهو الذي أتيحت له في لحظة تاريخية فارقة من فرص الزعامة ما لم تتح لسياسي مغربي من قبله.

وحتى داخل حزبه الذي مازال لم يتعاف من الخلافات التي كادت تمزقه، جاءت تصريحات بنكيران لتثير مخاوف بعض قيادات الحزب من إصرار الرجل حتى بعد إعفائه من رئاسة الحكومة وتنحيته من أمانة الحزب على ممارسة دور الزعامة من خلف الستار. بل إن من بين أعضاء حزبه من خشي أن يتحول زعيمهم إلى "شمشون" يريد أن يهد المعبد على الجميع، وذلك عندما أطلق النار في كل اتجاه خاصة على الأغلبية التي يقودها حزبه، مؤججا الصراع بين زعمائها وبين رفيق دربه رئيس الحكومة، بل وحتى داخل حزبه وقيادته الممزقة ما بين الموالين لخطه وبين الداعمين لرئيس الحكومة والأمين العام الحالي للحزب، الذي لا يريد أية مواجهة قد تؤدي إلى إرباك أغلبية حكومته الهشة أصلا.

وأخيرا هناك من ركز على قراءة ردود الأفعال حول تصريحات بنكيران أكثر من التركيز على التصريحات نفسها، خاصة الردود الصادرة عن المصابين بغواية خطاباته التي تتقن الاستدراج بشعبويتها ومظلوميتها. والمثير في ردود الأفعال هذه هو إيمانها الراسخ بأن الرجل قادر فعلا على أن يَبعث نفسه من جديد من رماده، وهو الذي كان وراء قرارات وتوجهات ضربت القدرة الشرائية للمواطنين ورهنت مستقبلهم للمجهول إرضاء للمؤسسات النقدية الدولية، فرضها بكل صلف وعنجهية يوم كان في السلطة، ويدفع اليوم السواد الأعظم من الشعب الفقير والساخط ثمنها غاليا.

قال بنكيران في خروجه الإعلامي الأخير "إذا كان الشعب يريد بنكيران من جديد، فإن بنكيران سيعود من قبره"، هذه العبارة وحدها تعكس الحالة النفسية لسياسي متناقض مع نفسه، فالرجل الذي وقف ضد إرادة الشعب عندما خرج هذا الأخير، في زمن "الربيع العربي"، يحمل شعارا واحدا يقول "الشعب يريد"، يريد اليوم من الشعب أن يتوسل عودته وهو الذي ظل طيلة خمس سنوات قضاها على رأس الحكومة يخطب ود القصر ويسعى رضاه متنكرا للشعب ومستأسدا على فقرائه وضعفائه.

undefined

لقد بنى بنكيران كل شرعية خطابه السياسي، كرئيس حكومة معارض للحكم، على خطاب سياسي ينتقد ما كان يصفه بـ "التحكم". يدعو إلى مواجهته ومحاربته وعدم الخوف منه، لكنه عند أول اختبار حقيقي له في مواجهة "التحكم" ترجل وترك الحصان وحيدا.

اليوم عاد بنكيران بخطاب سياسي جديد معلنا معركته القادمة ضد التحالف غير الشرعي بين المال والسلطة، لكن كيف يمكن أن يثق الناس في من طبَّع مع الفساد والمفسدين طيلة رئاسته للحكومة بأن يقود معركة جديدة ضد من سن القوانين وقدم التنازلات، وهو الذي زهد في ممارسة صلاحياته الدستورية عندما كان رئيسا للحكومة في ملاحقتهم ومحاسبتهم، كيف يجرؤ اليوم وهو الأعزل إلا من صوته أن يقف في وجههم؟!

لذلك، فإن من يراهنون على عودة بنكيران كمن يراهنون على السراب، لأن الرجل حتى لو عاد فسيعود مثل ظاهرة صوتية بلا صدى، لأن ما كان يضخم من صوته ويقويه هو وحدة حزبه الممزق اليوم بين تيارات تخترقه في العمق، وشعبيته التي كانت تمنحها السلطة بريقا جذابا خبا اليوم بعد إعفائه بطريقة مذلة هزت صورته في أعين مريديه والمعجبين به، وفوزه الانتخابي الذي كان يتحول بعد كل استحقاق إلى نكسة سياسية.

ورب قائل اليوم لبنكيران: "الصيف ضيعت اللبن"، فما لم يحققه عندما كان مسنودا بشعبيته وشعبويته، ومؤازرا بوحدة صف حزبه، وبيده زمام السلطة وهو على رأس حكومته، لن يتأتى له وهو المنبوذ من السلطة والمخذول من حزبه والمعتكف داخل بيته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.