شعار قسم مدونات

فيسبوك.. عندما يقرأ الأوجه!

blogs فيسبوك

بعد التحاق مؤسس الفيسبوك مارك زكربيرغ بجامعة هارفرد، طلب منه تصميم برنامج إلكتروني خاص من شأنه عرض وجوه الطلبة كدليل تعارف يشمل الصورة والاسم معاً، سعياً لديمومة التواصل، بوصفهم طلبة الجامعة الأولى في العالم، على أن يأتي أشبه ما يكون بالكتاب السنوي، وكانت تلك البداية الأولى لظهور برنامج الفيس بوك للعلن.

وفي الحقيقة إن السعي لتعريف الفيسبوك يتطلب استذكار أنه يشمل حالة المونولوج واللاوعي، حين يبدأ الإنسان يبث ما في دواخله للآخرين، عارضاً فكره وطروحاته الذاتية عليهم بالمجان، فأي مثالية تلك التي نشهدها في عالم اليوم حتى يفصح الإنسان للآخرين عن كل ما لديه؟ أما التعريف التطبيقي للفيسبوك فهو: عبارة عن مجمل الخدمات التي يتيحها لك هذا البرنامج التواصلي، وتشمل المراسلة والتواصل ومشاركة الصور والفيديوهات والمقاطع الصوتية والألعاب والبحث بشتى أنواعه والتسويق الإلكتروني.

 

وقد لاقى رواجاً هائلاً في دول العالم، وثبت إحصائياً حيازته للصدارة في تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي المتكاثرة تماماً مثل الفطر، إلا أن الرابط ما بينهن جميعاً هو تزكية النفس عبر وسائل تغلف جنون العظمة بغلاف الصلاح؛ ففي هذا السياق ينبغي التذكير بماهيته التي هي عبارة عن ترويج للنفس في سوق من المباهاة والاستعراض الطاووسي، وما يحزن حقاً ادعاء التدين، ومن نافلة القول أنه على الدوام  يلاحظ أن أسوأ صور وتطبيقات تلك الحالة النفسية  تتجلى في نطاق العمل، فتجد الكاذب والهارب من أداء عمله في أول النهار، واعظاً مرشداً فقيهاً يزكي نفسه في آخره، ويصدق فيه قول شوقي: برز الثعلب يوماً في ثياب الواعظينا.

يعرض الفيسبوك نماذج لأشخاص يمارسون أنواعاً شتى من السلوك، في سعيهم لانتزاع إعجاب الآخرين، ونيل الاستحسان لمنشوراتهم أو ردودهم أو حتى صورهم الشخصية

وقد قام الفيس بوك بتعرية أدعياء الصلاح، وكشف عن دواخلهم في صورة مذهلة منتزعاً خصوصياتهم من جراء الثقة الزائدة التي تأتي في غير محلها، وترتب عليه عدة مساوئ أبرزها الاكتئاب والوقوع في فخ مقارنة النفس من بمن فوقها أو دونها، ، وسوء الاستخدام بما يشمله من دلالات، والآثار المترتبة على الصعد الاجتماعية والنفسية والدينية، ناهيك عما فيه من حصار للدور التقليدي للأسرة، وما يسببه من مضيعة للوقت وإضعاف للبصر وإبراز ميادين التفاخر والغرور والجهر بالمعصية والفتن والطائفية والزندقة وتشجيع الشباب على ارتكاب المنكرات، مما يفترض في أولياء الأمور تذكر أن التربية ليست إعاشة فقط! لذا عليهم بذل المزيد في هذا الزمن الجديد.

إلا أنه ليس بوسعنا تقويض فكرة أن الوليد الجديد المتمثل في وسائط التواصل الاجتماعية على اختلاف أنواعها ومنها سناب شات وانستغرام وفيسبوك ورفيق دربه تويتر، عملت في عصر الديجتال الرقمي على توفير حديقة خلفية للتأثير في رأي الجماهير، وصياغة الوعي السياسي والاستقطاب الإيديولوجي، وجاءت وريثا للصحافة المطبوعة والبث الراديوي ومحطات التلفزة، ولا تخفى القدرة الفذة في التأثير على قطاع الشباب من خلال ما يتيحه الفضاء الافتراضي من هوامش ديمقراطية وتجاوز الرقابة الأسرية، فهل يا ترى يخلو المجتمع الفيسبوكي الافتراضي من الأمراض الاجتماعية؟

 

وبالأخص بما يعرضه من نماذج لأشخاص يمارسون أنواعاً شتى من السلوك، في سعيهم لانتزاع إعجاب الآخرين، ونيل الاستحسان لمنشوراتهم أو ردودهم أو حتى صورهم الشخصية، أو ما تفرضه الهالة الأدبية وتزكية النفس، وبالتالي يتجلى النزوع إلى الظهور الاجتماعي تحت ستار ادعاء الفضيلة والأخلاق، والتمظهر بمظهر الطيبة والتبني الكاذب للأحاسيس الجميلة، وتصويرالنفس كما لو كانت تصب كل مقدراتها في الاهتمام بالخير والصدق، وبروز عقدة النقص الاجتماعية في البحث عن ممارسة دور الممثل المنتشي بحب الظهور، والتطوع بالسعي لتبادل المعلومات، وزعم حيازة الروح الجميلة والوفاء والمحبة، والبروز في صورة القادر على امتلاك ناصية الحوار المؤدي للرقي، وامتلاك القلب الصافي، واستعراض قصة النجاح  لنيل الرضى من الآخرين ونثر المشاعر القلبية والتعارف الإنساني والمحبة وما سار في ركابها، وإظهار النقيض في ميادين الكراهية والحقد والغل.

والإصلاح الاجتماعي مطلوب، والنواتج المرجوة من ذلك مثلاً تساهم في شيوع الأخبار الاجتماعية في المقام الأول، ثم الأخبار المحلية فالوطنية فالعالمية، وكل ذلك يتم عبر بوتقة الواتس آب بخصوصية لا يدانيها شيء، وله في ذلك فوائد عدة لا سبيل لغض النظر عنها والمطلوب أن نفيها حقها، وفي ذلك إشارة لإمكانية التوظيف في إطار العمل الخيري، ومن المعلوم أن إدارة فيسبوك في الشرق الأوسط تمتلك القدرة على اتخاذ إجراءات  تعطيل وإيقاف الحسابات التي تحوي صفحات مخالفة للدين وتحض على الإلحاد، وبإمكانها أن تبدع في ميدان إعطاء خصوصية للفيسبوك العربي، وهنا أتكلم بصورة شخصية ولا أمثل أحدا.

إن التّجمهر عبر الواتس أب أو عبر الفيس بوك وما شابههما  بالنظر للماضي الجميل هو في واقع الحال اجتماع مشابه لاجتماع نساء الحي، رغبة في الاطلاع على الأخبار في منظومة مطورة من جلسات تبادل النشر الإخباري واستطلاع مستجدات الأحداث لدى الأهل والأقارب والحي ككل، كما لا تخفى رغبة التواصل مع الأصدقاء بعد مرور عقود من الزمن، وهي تجربة إنسانية فذة ومشاعر عصية على التوصيف اللغوي، وقد مررت بتجربة رائعة في الوصول لأصدقاء باعد الزمان بيننا لعقود فوجدتهم بأطيب حال وأحسن مآل والشكر يعود للفيسبوك في هذا المقام.

الصين بوصفها بلداً شيوعياً محافظاً تخشى من الغزو الثقافي هي وإيران وكوبا، عملت على حجب منصات التواصل الاجتماعي
الصين بوصفها بلداً شيوعياً محافظاً تخشى من الغزو الثقافي هي وإيران وكوبا، عملت على حجب منصات التواصل الاجتماعي
 
هل حان وقت بناء الخصوصية؟

لك أن تعرف مقدار تناثر الطيبة في بعض أنحاء العالم، وتحديداً في زمن الصورة الطائرة التي تنتقل من مكان لآخر في غضون ثوان معدودة، فبات بالتالي من المشروع مراقبة المحتوى الأخلاقي للشبكة العنكبوتية، وتعزيز دوائر مكافحة الجرائم الإلكترونية، ولكن ليس عبر تتبع مسارات الفكر لدى المعارض السياسي، وليس عبر الاقتصار على محاصرة الهوامش السياسية التي جاءت بمجيء الربيع العربي، بحجة محاصرة التجنيد للحركات الجهادية في الثورة السورية على سبيل المثال، ودولنا العربية مطالبة بالتصدي للجاسوسية التشفيرية بنهجها الجديد، التي تصب في المرحلة الثانية من الغزو الثقافي، وإن كنا في بداية الطريق، فلا زلنا نعاني في إطار محاولات تعريب محتوى الشبكة العنبكوتية، فكيف بالرقابة التي تتطلب جهوداً كبرى؟

 

تبدو الإجراءات الصينية في هذا الإطار خير مثال يحتذى، فالصين بوصفها بلداً شيوعياً محافظاً تخشى من الغزو الثقافي هي وإيران وكوبا، عملت على حجب منصات التواصل الاجتماعي، وخدمات جوجل وويكيبيديا واليوتيوب علاوة على آلاف المواقع الإلكترونية الأخرى، رغبة منها في المحافظة على خصوصية الإرث الثقافي الصيني، لذا جيء بالتطبيق الصيني ويشات (WECHAT)  بديلاً عن الفيسبوك، وتطبيق (WEIBO) بديلاً عن تويتر، واستحدث موقع علي بابا بديلاً للمتجر الأمريكي أمازون، وباءت بالفشل محاولات زوكربيرغ في التماس تقبل الصين للفيسبوك بنسخة متوافقة مع الصين قبل أربعة أعوام، والعجيب أنك تجد عبر الشبكة العنكبوتية من يتطوع بإيجاد بدائل عن الفيسبوك منتظراً تلقي الدعم من بلاده، في الوقت الذي يتكاسل فيه وطننا العربي عن القيام بإيجاد البدائل المناسبة، أو فرض شروط معينة لمنصات الفيسبوك وأخواتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.