شعار قسم مدونات

الاستبداد مصيرنا

blogs الاستبداد

لا أتذكر أين قرأت مقالة قصيرة تتحدث بما معناه: استيقظ الأستاذ الجامعي فلبس بدلته البريطانية وساعته السويسرية وحذاءه الإيطالي، ثم أخذ سيارته الألمانية وذهب إلى الجامعة ليلقي على طلبته محاضرة عن تشجيع المنتجات المحلية! لست هنا مناقشا السؤال القديم عن انفصال التنظير عن التطبيق، فهذا يمكن الاختلاف فيه طالما كان عن حالة فردية، ولكن نقاش هذا السؤال يأخذ اتجاها مختلفاً تماماً عندما يصبح هذا الانفصال سلوكاً عامّاً.

 

هل كتب علينا، في العالم العربي، هذا الوضع الاستبدادي الذي نرى نتائجه المأساوية ملطخة بالدماء والبارود وكثير من السبق الإعلامي؟ جواب من رفعوا رايات الدفاع عن الأنظمة يشاهد في أفعالهم، وقد يجيء من أوتي مسحة من ذكاء ومكر منهم فيقترح أن نزيل صفة (الاستبدادي) تلك من السؤال، لأنه يرى في دفاعه التعيس دفاعاً عن الأوطان وليس عن المستبدين. 

أما أولئك الذين يحدوهم أمل رؤية أوطاننا العربية حرة فهم الذين يوجه إليهم السؤال دوناً عن غيرهم. وذلك بدفعهم لرؤية جذور الاستبداد إلى ما وراء الأنظمة المهترئة، بل وتحويل أنظارهم إلى أنفسهم؛ بالسؤال عن مدى تجذر الاستبداد في سلوكياتهم تجاه المخالف لهم، وإلى أي مدى يصبغ الاستبداد تصرفاتهم اليومية. تلك التفاصيل الصغيرة التي نغفل عنها في حياتنا بينما هي تشكلنا وتوجه وعينا بالعالم. ولقد عرفت كثيرا ممن لا أشك في صدقه وإخلاصه للحريات ومناهضة شتى ألوان الجور، ولكنني لم أرى أكثر استبداداً منهم في كثير من آرائهم وتصرفاتهم. 

البلطجية من المرّيخ والثوار من…
لست من القائلين بأن الاستبداد منتج عربي بامتياز، فتلك خرافة لا تستدعي دحضها. ولكنني أتساءل عن مدى وعينا بآثاره وتوغله في ثنايا مجتمعاتنا

لا يستطيع أحد إنكار أن كثيراً ممن خرج في مظاهرات الـ 30/يونيو/2013 في مصر كانوا ممن لهم سابقة في ثورة يناير؛ إذ انقلب ثوار الأمس على خيارهم الذي ناضلوا من أجله. وكان علي عبد الله صالح في اليمن كلما دعا إلى مسيرة حاشدة امتلأت ساحات صنعاء بأنصاره أو من يقوم بأدوارهم. وعرفت الثورات العربية الأخيرة ظاهرة البلطجية أو الشبّيحة (حتى الانحدار له صبغته المحلية). بيد أن هذه الظاهرة تواجَه عند فحصها بضرب من التحليلات التي لا تتعب قائلها. فمن اليسر القول بأن هؤلاء البلطجية هم من أفراد أمن النظام تزيوا بزي المدنيين، أو من المرتزقة الذين يمكن شراؤهم بأبخس الأثمان. ولكن ماذا بعد هذا كله؛ من أين أتى هؤلاء القتلة؟ ألا يدل انتشارهم بهذا الشكل المخيف على أن الاستبداد سلوكاً عصي على الدراسة من حالة الاستبداد سلطةً ونظاماً؟

ولنا العودة إلى مظاهرات 30 يونيو في مصر؛ فقد انكشفت تفاصيل الحكاية بعد سنوات من الانقلاب على مرسي. ضخت الأموال في مصر حينها لشراء بعض الثوار السابقين، وشراء غيرهم، وتعددت ألوان الذين خرجوا: من الليبراليين الذين يخشون فزاعة حكم الإسلاميين، إلى الذين يرون وجوب طاعة المتغلب، وبعض الذين لم يتعودوا على رؤية حياتهم دون مستبد يوجهها لهم، ويمكن القول إن هناك من خرج، ولو حكمنا بسذاجة قراره، وهو حقا قد أفزعه سلوك الإخوان وهم ما يزالون على عتبة الحكم، فكيف بما بعد. في الأخير ذهبت صرخات الثورات أدراج الرياح وبقي ذاك السلوك الاستبدادي يلعب بأوتاره حتى أخرج أغنيته الرديئة كاملة الأركان. 

إنها مسيرة نصف قرن أو يزيد من حكم الأنظمة الاستبدادية لأوطاننا العربية، وركام من التغيرات الاجتماعية التي جعلت كفة الاستبداد على المستوى المجتمعي أكثر رجحاناً من التوق إلى الحرية. ففي مصر قدم الثوار صدورهم لإسقاط طاغية، ثم قدم بعضهم أصواتهم لرفع آخر؛ لأن التجربة الديمقراطية لم تأت بخيار حسب شروطهم الموهومة. وفي اليمن قدم الثوار صورة عن بلدهم تختلف عن التي تسللت عبر نشرات الأخبار، وكثير من الأوهام أو حتى الحقائق، لكن سرعان ما أطل السلوك الاستبدادي بوجهه القبيح؛ فانتصرت المصالح ومعارك القبيلة، وبعثت أحقاد مدفونة لتلطخ قلوب بعض الذين ثاروا وكثير غيرهم. 

لست هنا من القائلين بأن الاستبداد منتج عربي بامتياز، فتلك خرافة لا تستدعي دحضها. ولكنني أتساءل عن مدى وعينا بآثاره وتوغله في ثنايا مجتمعاتنا. فعندما يصبح التسلّط سلوكا، بعيدا عن الأنظمة وطرق الحكم، لا يمكن للكلام أن يصلح (ما أفسده الدهر). وفي نشأة الإسلام وجهة لدارسي هذه المعضلة؛ فقد خرج الإسلام وسط أقوام صقلت سجاياهم حرية الصحراء، وفيهم من شرف الأخلاق ما يمنعهم من الوقوع فيما يشين المرء، وكانوا بعيدين، في ماضيهم، عن تجربة سلطوية تستبد بهم. نعم، كانت لدى العرب نظم عامة تصبغ حياتهم، مثل الصلات القبلية، التي انتصرت بعد نصف قرن من مجيء الإسلام؛ لتثبت أن السلوك متى ما كان عامّاً ومتجذراً فلن تمحوه الكلمات وتنظيرات الحالمين.

أشار مايكل مور، في كتابه رجال بيض أغبياء، بذكاء إلى خدعة الخيارات في الولايات المتحدة الأميركية: فالناخب الأميركي يقف أمام اختيار مرشح من أحد (الحزبين)، الجمهوري أو الديمقراطي، وغالب المدن الأميركية تسيطر على إعلامها المكتوب (جريدتان) ، والقنوات التي تطل على المشاهد الأميركي هي القنوات الأربع الرئيسة: أي بي سي، وإن بي سي، وسي بي أس، وقناة فوكس نيوز.

أما نحن في الوطن العربي، فقد عشنا عقوداً في ظل الزعيم الأوحد، والحزب الواحد، والإعلام الرسمي الوحيد، ونمَت للجدران عندنا آذان، واختفت المفردات من كلامنا اليومي لأنها تجلب الوبال على قائلها، وترمي به في غياهب الويلات. وحتى تلك الخطابات المعارِضة كانت تأتي مرصوفة الكلمات؛ بحيث لو عبر أحد المنتمين إليها بشيء خارج قاموسها المجمع عليه فإنه يرمى بشتى الأوصاف التي تتنوع حسب لون الخطاب ذاك: سواء كان إسلاميًا أو يساريًا أو قوميًا.

 

ما يحدث بمصر وسوريا هو عجز أمام الاستبداد، وتماهٍ معه بسلوكياته المنتشرة على مستوى المجتمعات؛ بحيث أصبح الاستبداد حالة غير مستنكرة
ما يحدث بمصر وسوريا هو عجز أمام الاستبداد، وتماهٍ معه بسلوكياته المنتشرة على مستوى المجتمعات؛ بحيث أصبح الاستبداد حالة غير مستنكرة
 

ثقل الدولة

لم تشهد الشعوب سطوة الدولة كما شهدتها في ظل الدولة الحديثة؛ فالدولة حاضرة اليوم في حياة مواطنيها بدءاً من إصدار شهادات الميلاد، ومرورا بجوازات السفر، وركام من القوانين والتنظيمات التي جعلت من الفرد اليوم صيغة بشرية لشكل الدولة بطريقة أو بأخرى. ولعل في تاريخنا الإسلامي ما يشرح ثقل الدولة بين الأمس واليوم. ففي الفترات التي شهدت فيها الدولة أسوأ أشكال الانهيار، نجد المجتمعات المسلمة بعيدة عن آثار هذا السقوط سواءً على مستوى النخب المثقفة، أو الحالة العامة للمجتمعات المسلمة التي سجلتها لنا كتب الرحلات والتراجم وغيرها.

فقد عرفت الحضارة الإسلامية أعظم رموزها في أوقات كانت السياسة فيها متشحة بانحدار لا مثيل له؛ فأسماء من أمثال: ابن حزم والجويني والغزالي وابن تيمية وابن خلدون وغيرهم، ظهرت في فترات انقسام ووهن سياسي مزرٍ. ولو كان ثقل الدولة على المجتمعات كما نراه اليوم لصبغت الدولة هذه المجتمعات بلونها القاتم اللعين. 

لذلك كان على أولئك الذين يريدون استنساخ الماضي في طريقة الحكم، أو استيراد التجارب من هنا وهناك، أن يتنبّهوا إلى حضور الدولة الجاثم على كل أنفاسنا اليوم. إن إشكالية توجيه الإصلاح إلى رأس هرم السلطة يتمثّل في معضلة تجاهل شيوع السلوك الاستبدادي في ثنايا المجتمعات أولاً، وثانياً في فتح الباب مشرعاً لمن تملّك عرش الحكم في تغيير أخلاقيات وسلوك الناس، لا لشيء إلا لأنهم اعتادوا على أن يأتي التغيير (من علِ). وهذا يعني أن بإمكان أي فئة تمتلك القوة الأخذ بزمام السلطة في مجتمع ظاهره الحرية لتغيّره وتستبد به دون رادع من أي مقاومة مجتمعية.

 

إذ لنا أن نتساءل: كيف أمكن لمجموعات العسكر، الذين استبدوا بالسلطة في أكثر من بلد عربي، أن يغيروا مناخه السياسي إلى بيئة مسمومة بالشمولية؟ ألم تكن الحياة السياسية في كل من مصر وسوريا والعراق أحسن حالا منها بعد مجيء العسكر؟ لا يمكن أن نفسر ما حدث في هذه البلدان إلا بأمرين اجتمعا معاً: عجز كامل أمام الاستبداد، وتماهٍ معه في سلوكياته المنتشرة على مستوى المجتمعات؛ بحيث أصبح الاستبداد حالة غير مستنكرة.

 

ولأن قيم الحرية لم تكن متجذرة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة (فالحقبة الاستعمارية دمرت فينا الكثير)، ولم يكن المناخ السياسي الحر-إلى حد ما-سوى منحة من السلطات الحاكمة قبل مجيء العسكر، وكانت الطريق معبّدة للأخيرين ليجعلوا مسير مجتمعاتنا مسيراً أحادياً يتجه إلى وجهة واحدة ولا شيء سواها…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.