شعار قسم مدونات

حينما يقضّ الحلم مضجعك!

blogs أحلام

"الكثيرون يملكون آمالا عريضة، وطموحات عالية، لكنهم يخفقون في تحويلها إلى مجراها الحيوي المباشر، فتنعكس على حياتهم يأسًا وإحباطًا وعزوفًا عن العطاء"

– سلمان العودة

 

"لا يستطيع الانسان أن يكف عن الحلم"

– باولوا كويلو

 

تكاد أن تُحصر متعنا فيما يمكن وصفه بـ "دفع سأم الاعتياد" الذي تتكون منه حياتنا، فنحن ننتشل أنفسنا من مستنقع رتابتها الآسن، ثم لا نلبث أن ننغمس فيه، وبين هذا الخروج والعود تتصرّم أعمارنا: نتحدث، نتجول، نسافر، فنطيل حتى نشتاق السكوت والقرار والأهل ثم نتحجر فنقلق وينقلب معه كل مزاجنا.. هكذا دواليك. وأظن أن أكثرنا حكمةً من لم تجمّده الرتابة فيتحجّر بؤساً، ومن لم تبعثره المراوحة فيتمزّق قلقاً!

 

حلمكَ غدك.. فاسع إليها وإن كانت أضغاث!

تحتل الرؤى موقعاً متقدماً في وعينا وإدراكنا لا لواقعنا الذي نعيشه فقط، بل للماضي والمستقبل أيضاً، فهي تمثّلُ للكثيرين منّا ما يمكنُ تسميته بـ "مصدر معرفة"، لكنها معرفة تكتسبُ وثوقيّةً عالية، نظراً لما تتكئُ عليه من نصوص دينية أحالت ما يتراءى للناس في منامهم إلى معطى يتمتّعُ بدرجة كبيرة من المصداقية المبالغ فيها.

 

إننا من أكثر الأمم تأثراً بالأحلام من الناحية الاجتماعية، فكثيرٌ من عقائدنا وعاداتنا نشأت فينا ونمت من جرّاء ما نسبغُ على أحلامنا من صبغةٍ قدسيّة

فقد درج الناسُ على الأخذ بما يُلقى إليهم في المنام مأخذاً جدياً، هكذا بلا تحرّج، وهم يقومون بعملية ترقية لذاك المعطى "المنامي" ليصيرَ مكوناً مهماً لتصوراتهم عموماً، والتصورُ والإدراك هو ما يصبغ الانطباع والشعور، وهذا ما سيؤثر -حتماً- في ردّات الفعل، فالناس -في عمومهم- يرجعون في ذلك إلى مأثوراتٍ وحكايات وأقاصيصٍ، تُقصُّ وتُحكى، يستأنسون بها، ويتداولونها، فيزيدون فيها كثيراً ولا ينقصون، ويُضيفون ويملّحون ويشوّقون، إذ الناسُ في مجالسهم لا يتحرّون كثيراً ولا يدقّقون، فهي -عند التحقيق- أحاديثُ إيناسٍ وسمر، يُرادُ بها -عادةً- الإدهاشُ بمثل تلك الغرائب، فلا يُدهشُ إلا غريب، ولا تُسترعى الأنظارُ والأسماع بشيءٍ كتلك العجائب الخارجة عن المعهود والعادي.

 

لكنهم ويا للمفارقة..! يقومون من تلك المجالس وقد ترسّخت فيهم تلك الأباطيل أكثر، وهم بذلك أسوءُ حالاً ممن يكذب الكذبة ليصدّقها بعد ذلك، لأن هذا النوع من الكذب "المنظّم" لا يلبثُ حتى يأخذُ شكلَ المسلّمة الاجتماعية، التي تتلبّسُ لبوسَ الدين بعد ذلك، ولعلَّ هذا ما يفسرُ الانتقال "الخرافي" بمحتوى الرؤية من الوهم إلى الظن ثم إلى درجة تقارب اليقين، بلا أي دليل. يقول علي الوردي: "أستطيعُ أن أقولَ بأننا من أكثر الأمم تأثراً بالأحلام من الناحية الاجتماعية، فكثيرٌ من عقائدنا وعاداتنا نشأت فينا ونمت من جرّاء ما نسبغُ على أحلامنا من صبغةٍ قدسيّة"، فهي ظاهرة اجتماعية متشكّلة -بالأساس- من الظاهرة الفردية، كما أنها من الصور التي أرى فيها مجتمعاً يتواطئ للإيقاع بأفراده..!

الحلم قطافٌ من شجرة الفأل، تلك التي أصلهُا في القلب، وفرعُها في الغيب.. جاء في الحديث الشريف: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث حين يستيقظ ثلاث مرات ويتعوذ من شرها، فإنها لا تضره)، متفق عليه. وجاءَ في روايةٍ أخرى عند ابن ماجه: (وليتحولْ عن جنبه الذي كان عليه).. كان أبو سلمة -وهو أحدُ رواته- يقول: "إنْ كنتُ لأرى الرؤيا أثقل عليَّ من الجبل، فما هو إلا أن سمعت هذا الحديث فما أباليها".

 

لقد اعتقدَ بعضُ العلماء أن الدافع للمكروه الذي رآه النائم هو "التعوّذ" وربما "الانقلاب على الجنب الآخر"، فهذان الإجراءان منصوصٌ عليهما في الحديث الشريف بمجمل الروايات، وقد استقرأ بعضهم روايات هذا الحديث فوجد أعمالاً أخرى قد نُصَّ عليها أيضاً. وأظنهم فهموا أن مكروهاً كان سيقعُ بحسب ما رآه النائم في حلمه، إلا أن تلك الإجراءات حالت دون ذلك، وبهذا سيكونُ الحديث كالمقرّر لإمكانية وقوع المخاوف المناميّة ابتداءً.

 

لكن يبدو -والله أعلم- أن للحديث مراماً آخرَ، فهو لا يثبتُ أن مكروهاً سيقع بقدر ما يرشدُ إلى تسكين رهبةٍ اندلعت -في الحقيقة- من لا شيء، وهي لن تضّر الحالم إلا باستسلامه لتلك التوهمات، فحينها سيكونُ الحلمُ شيطانيّاً، فكأن الموقف من الرؤية هو من سيحدّد طبيعتها، فالمعيارُ إذن هو الأثر والتأثر، ذلك أننا لن نستدفع الشكوك والمخاوف التي لا ندري مأتاها من أين، التي هي كالأوهام العائمة في الفراغ والـ"لا شيء".. بمثل الإيمان واليقين والثقة بالله، فهو الزاد لما يُستقبل مما لا ندريه أو حتى ندريه، فإذا هجست ضمائرنا بخوفٍ تراءى لنا في يقظةٍ أو منام؛ كانت الحكمة أن نهرع إلى التعوّذ لنمحو ما يلقيه شيطانُ الخوفِ من المجهول، فنسدُّ بذكر الرحيم فمَ الرجيم، ونهتك ونمزّقُ حجبَه القاتمة التي تحول دون شعاع الأمل.

يذهب معظمُ علماء النفس إلى أن الأحلام مرتبطةٌ بالرغبات والمخاوف الدفينة في أعماقنا، فهي تطفو على السطح حينما نحلم
يذهب معظمُ علماء النفس إلى أن الأحلام مرتبطةٌ بالرغبات والمخاوف الدفينة في أعماقنا، فهي تطفو على السطح حينما نحلم
 

ولذا ترى الاستبشار يتنفسُ في النصوص كما الصبح الماحي للعتمة، وذلك حينما نفقهها كما ينبغي، قال تعالى: (لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)، فعندما قيل للرسول -عليه الصلاة والسلام-: عرفنا أن بشرى الآخرة الجنة، فما بشرى الدنيا؟.. قال: (الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرَى له، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءاً من النبوة)، رواه أحمدُ وغيره، وجاء في الحديث الشريف الذي رواه ابنُ حبّان: (ذهبت النبوة، وبقيت المبشّرات)، وبهذا سيتضحُ لنا معنى الرواية التي خرّجها ابنُ راهويه في مسندِهِ، تقول الرواية: (ولا يحدّث بها، فإنها التي تضره)، أي ذاك المنام البشع التي يحدّثُ به، فهي ستضرّهُ لأنها تجعله أسيراً لمخاوفه، فليستعذْ بالله إذن، وليطردها عن ذهنه بعدم التفكير فيها، وخيرٌ ما يستعين على ذلك هو أن يكتمها، فلا يتحدّث بها..

 

هذا ما استخلصته -مجتهداً- من كلام العلماء، وقد نقل الحافظُ ابنُ حجر عن ابن العربي قولَهُ: "أما العالم فإنه يؤولها له على الخير مهما أمكنه، وأما الناصح فإنه يرشد إلى ما ينفعه ويعينه عليه، وأما اللبيب -وهو العارف بتأويلها- فإنه يعلمه بما يعوّل عليه في ذلك أو يسكت، وأما الحبيب فإن عرف خيراً قاله وإن جهل أو شك سكت".. فأنتم تلحظون النزوع إلى مداراة الدلالات السلبية في الحلم، ربما خشيةً من تجذيرها في النفس أكثر، وإنني أرى أن هذا التفسير سيقلّلُ من مصداقية محتوى الأحلام والرؤى، حتى يعودُ بها إلى حقيقتها الفعلية.

 

وهذا ما يشرحه الحديث الشريف الذي رواه الصحابي الجليلُ أبو قتادة -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يقول: "الرؤيا على ثلاث منازل: فمنها ما يحدّث به الرجلُ نفسَه، وليس ذلك بشيء. ومنها ما يكون من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره؛ فليتفل عن يساره ثلاثا، ثم ليتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره. ومنها رؤيا من الله، فإذا رأى أحدكم الشيء يعجبه؛ فليقصها على ذي رأيٍ ناصح، وليقل خيراً، أو ليتأول خيراً، فإن رؤيا العبد الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة"..

 

اهتمَّ علماءُ النفس بالأحلام وتفسيرها، فإذا استغلقَ عليهم شيءٍ من علّة المريض النفسية، فلعلهم يعثرون على المفتاح مطموراً في أحلامه

فالرؤيا المعتبرة هي الخيّرة فقط، فلا ينبغي الالتفات إلى ما سواه، فالحلم الشيطاني جديرٌ بالتجاهل، لأنه ليس بشيءٍ في الحقيقة. ثم علينا أن ننتبه إلى أن هذا التنصيف يذكر النوع، ولا يتعرّضُ للكم، فالظاهر من حال الراقدين أن الأغلبية واقعون تحت تأثير المنامات التعيسة، أي تلك التي هي لا شيء، وهذا ما جعلهم يتقاطرون على الدجّالين ممن يمتهنون "تفسير الأحلام".

أقول: إن متابعة التفكير بهذه الطريقة سيؤلُ بنا إلى أصلٍ عظيم مؤكدٍ في الشريعة وهو "الفأل والأمل"، فقد كان -عليه الصلاةُ والسلام- يُعْجِبهُ الْفَأْلُ الحسنُ -أي التفاؤل-، ويكره ما يجلبُ التطيّرَ والتشاؤم، وكان يطلق النصائح الحكيمة ليستأصله من النفوس، قال الإمامُ القرطبي: "إنما كان يعجبه الفأل لأنه تنشرح له النفس ويحسن الظن بالله، وإنما يكره الطيرة لأنها من أعمال أهل الشرك وتجلب سوءَ الظن بالله"، ويقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إن للشيطان لَلَمّةً بابن آدم، وللمَلك لَمةً. فأما لمّةُ الشيطان، فإيعادٌ بالشر، وتكذيب بالحق. وأما لمّة الملَك، فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق. فمن وجدَ ذلك؛ فليعلَمْ أنه من الله، فَلْيحمَد الله. ومن وجد الأخرى؛ فليتعوذ من الشيطان".. وأضيفُ: فإنها لا تضره..

الحلُمُ شغف..

يذهب معظمُ علماء النفس إلى أن الأحلام مرتبطةٌ بالرغبات والمخاوف الدفينة في أعماقنا، فهي تطفو على السطح حينما نحلم، إذ يرى فرويد -مثلاً- أن الأحلام شكلٌ من أشكال "تحقيق الرغبة"، مع أن بعض العلماء حاول أن يفسّر ظاهرة الأحلام تفسيراً بيولوجياً صِرفاً، فلا يراها انعكاساً نفسياً، بل تفاعلاً عضوياً، تتمخّضُ عنه تلك الصور والأخيلة، إلا أن الرأي الأشيع هو الأول، ولذا اهتمَّ علماءُ النفس بالأحلام وتفسيرها، فإذا استغلقَ عليهم شيءٍ من علّة المريض النفسية، فلعلهم يعثرون على المفتاح مطموراً في أحلامه، إذ يقوم الأطباءُ بتحليل أحلامه وتفسيرها لمساعدته بذلك على تحسين فهمه لنفسه التي شردت منه في اليقظة، فتلك الرغبات ربما سفرت عن نفسها أو تبرقعت بالرموز، وعند التأمل فإن المخاوف هي -بالنهاية- رغبات، فالراغب هو خائفٌ متمني.

أرى الرؤيا تحاكي -بصورةٍ مجازية رمزية- ما يموجُ في أعماقنا، لا ما يدور خارجنا، وفي الحق أنها كثيراً ما تكون "أحاديثَ نفسٍ". إنها ليست دائماً كوةً نطلُّ بها إلى الغيب المكنون، بل انفراجة في جدار الذات الأبيّة الشمّاء، ففي الكرى الرطب ارتخى الكتمان، وانحلّت عُقَدُ الصبر الجميل، فأطلقَ المتمني هَمْهماته المزدحمة، فمن تمنّعَ عليه الواقع؛ طاوعته الأحـلام…!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.