شعار قسم مدونات

مواقع التواصل.. أزمة أخلاقية ومنصة للقذف والشتيمة

blogs لابتوب

انتشرت ظاهرة السب والشتم في مواقع التواصل الاجتماعي بشكل واسع في الآونة الأخيرة، فأصبحت مرتعا لذوي النفوس الضعيفة ووعاء لتفريغ عقدهم وضغوطاتهم النفسية غير آبهين بما سيترتب عن ذلك من أذى نفسي لمن يقصدونه بكلامهم، فترى لماذا أصبح هذا الكم الهائل من الحقد والكره العلني يطغى على التعليقات والمنشورات العمومية؟ لعل كل هذا وذاك راجع إلى الحرية المطلقة التي تحس بها هذه الفئة وهم وراء شاشاتهم بلا رقيب أو حسيب، وأيضا اعتقادهم بأن العالم الافتراضي يمتعهم بحرية تعبير غير مشروطة؛ فيمنحون أنفسهم الحق بقول كل ما يحلو لهم دون التزام وأدب أو تقدير لشعور من يوجهون له الكلام.

دائما ما كان يشد انتباهي سلوك هذه العينة من البشر، فأتساءل عن الدافع الحقيقي الذي يحتثهم على ارتكاب تلك المغالطات والممارسات العدوانية وراء الشاشة. أكاد أجزم أن أي شخص يتعمد الإساءة لأخر دون تبرير أو غاية بحتة ما هي إلا وسيلة يلجأ إليها أملا في تعويض نقص يحسه به تجاه نفسه أو تجاه الاخرين، فبإساءته تلك يخيل إليه أنه برز شخصيته وقوته ولكنه في الحقيقة لجأ لذلك ليخفف عن نفسه شعوره بالإحباط أو تنفيسا لضغوط نفسية يمر بها، وأيضا نتيجة لفراغ يعيشه جراء عدم تحقيقه لذاته أو سخطه على واقع يعيشه أو مجتمع يحيط به. كما يمكن أن نرجح سبب هذه السلوكيات إلى ضعف في النضج الفكري واضطراب في السيطرة على النفس وعجز في كبح نزعة العدوانية تجاه الأخرين.

إن هذه الشتائم والتعابير الجارحة لا تكون دائما موجهة لأشخاص قدموا محتوى ومنشورات لا ترقى لمستوى جيد أو هادف، بل يمكن أن تكون موجهة أيضا لأشخاص ذنبهم فقط أنهم أظهروا نفسهم لأول مرة للعلن وحاولوا تقديم محتوى جديد، أو جاؤوا بأفكار مبتكرة ليفيدوا بها الناس، وهذا ما يؤكد حتمية وجود خلل نفسي يعاني منه هؤلاء الأشخاص؛ فبدلا من التشجيع أو النقد الهادف البناء نرى كما هائلا من التعليقات المحبطة الجارحة والمسيئة لهذا لشخص وذلك فقط لأنهم رأوا ما يقدمه غير ضروري ومضيعة للوقت مثلا أو كان خارج نطاق اهتماماتهم، وفي أحيان أخرى تبتعد التعليقات كليا عن مضمون المحتوى ونراها تميل إلى التركيز على ظاهر الشخص فقط، كانتقاد شكله مثلا، نبرة صوته، خجله الظاهر أحيانا، ملابسه وطريقة كلامه.

هل بات من الضروري أن نلجأ للتجريح والقذف ظنا منا أننا بهذا نثبت للآخر ذاتنا وقوة شخصيتنا؟ لم يكن الاختلاف أبدا ليفسد في الود قضية.. فارتقوا بعقولكم

كم سمعنا من أناس قرروا أن يوقفوا نشاطهم على مواقع التواصل الاجتماعي فقط لأنهم سئموا من قراءة التعليقات المسيئة والمحبطة بالرغم من أنهم يقدمون محتوى هادف وبناء ويمتلكون متتبعين يحبونهم ويساندونهم ويدعمونهم، إلا أنهم في لحظة ضعف سمحوا لمثل هؤلاء من أن يسيطروا على تفكيرهم ويضعفوا عزيمتهم، أو كانوا يمرون بفترة صعبة في حياتهم جعلتهم غير قادرين على تحمل الكلام القاسي والشتائم. في حين أنني لا أستثني من استطاعوا مواجهة كل هذا وذاك وواصلوا طريقهم غير آبهين بالسلبيين ومتصيدي الأخطاء، ولم يسقطوا في فخ كلام الحاقدين المحبطين بل قرروا ألا يسمحوا لأي كان بثنيهم عن مواصلة شغفهم.

أظن أن هناك من يتلذذ بأذية الأخرين، ويكون هدفه الأول في الحياة هو إحباط من رآه ناجحا متألقا، أو لعله يحس بالاستمتاع وهو ينهال بسيل من الشتائم على كل من لم يرق له، فيهاجم هذا وذاك، يحرض شخصا على أخر، يشعل نيران الفتنة ويجلس مكانه يتفرج وهو في قمة انبساطه. إن هذه الظاهرة لم تعد تقتصر فقط على الأشخاص العاديين بل انتقلت لباقي فئات المجتمع من شخصيات عامة وفنانين وإعلاميين على حد سواء، وأضحت تمس أيضا بالمعتقدات والديانات وتشعل الفتن من خلال التعبيرات الطائفية والعنصرية المسيئة، فصارت بذلك مواقع التواصل الاجتماعي كحلبات المصارعة ومرتعا لتفريغ السلبية والعدوانية وملتقى لأحزاب ومشجعين ومقاطعين، حيث أصبحنا نرى "جيوشا" لفنان تتعارك مع جيوش فنان أخر، يترقبون فقط فرصة تعرض محبوبهم لإساءة ما لينهالوا على بعضهم بالشتائم تحت شعار "فناني خط أحمر".

 

بل أكثر من ذلك، فقد أصبح بعض من المشاهير أنفسهم يستعملون هذه المواقع للرد على منتقديهم سواء أكانوا مشاهير مثلهم أو أناسا عاديين أساؤوا لهم بكلمة أو بوصف، فتندلع بذلك حروب لا متناهية من الردود القوية والرسائل المبطنة بألف معنى. ناهيك على النزاعات الدينية والطائفية والتي تتخطى كل حدود الاحترام والأدب وترفض تقبل الأخر باختلافه كيفما كان ومحاورته بلين ورقي. فلماذا نسعى دائما إلى الأساليب المسيئة والعدوانية إذا اختلفت آرائنا، أفكارنا أو ديانتنا عن الأخر؟ هل بات من الضروري أن نلجأ للتجريح والقذف ظنا منا أننا بهذا نثبت للآخر ذاتنا وقوة شخصيتنا؟ لم يكن الاختلاف أبدا ليفسد في الود قضية.. ارتقوا بعقولكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.