شعار قسم مدونات

فَتَزِلَّ قدمٌ بعد ثبوتِها

blogs الدعاء

غرّدت إحداهنّ يومًا قائلةً: "عزيزتي الفتاة. لا تستميتي في الدفاع عن شرفكِ وحجابكِ وأنتِ لم تتعرضي بعد لاختبارٍ يثبتُ قناعتكِ التّامة به. فطالما لم تخرجي من قوقعة أهلك وزوجك وإخوتك. ولم تجربي العيشَ في مُجتمعٍ مُنافٍ لعاداتكِ وتقاليدك. فلا تتحدثي عن الشّرف. ولا تُدافعي عن الحجاب. فكلّ الذين قد تعرضوا لهذا الاختبار سقطُوا. ولن تكوني بأحسن حالٍ منهم".

بنظرةٍ دقيقةٍ على ما قالتْه وما يحدُث من حولنا. نجدُ بأنّ هذا الكلام لم يعُد ينطبقُ كنظريةٍ على الفتياتِ وحدهنّ. فحتّى الشّباب في السنوات الأخيرة تغيّروا تغيّرا مُفاجئا في المعتقدات والطباع ولم تعُد البيئة الحاضنة للفتاة. أو العادات التي تمنعُها من ممارسة حريتها. موجهةً لها فقط. فكم من شابٍ اكتشفَ فجأةً أنّه ملحدٌ بعد أن غادرَ بيئته ومدينته. وبعد أنْ قرأ كتابًا أو اثنين. وكم من شابٍ أيضًا تنازلَ عن أخلاقه ليجرّب حياةَ المُجون التي وجدَ فيها متعةً قد حرمَهُ دينُه ومجتمعُه منها لسنوات. كلّ هذا لأنّه لم يجرؤ هو الآخر على التغييرِ قبل مغادرتِه لمجتمعه نهائيًّا.

تكمُن عظمةُ قولهِ تعالى في الآية الكريمة: "فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها" في دقّة الوصف. فلو أمعنتَ النَّظر فيها جيّدًا. وقرأتْها لعدّةِ مراتٍ. ثمَّ تخيّلتَ الموقف. لاستعصَى عليكَ حالك المتكبّر. ولأدركتَ خطورةَ ما نعيشُهُ الآن. فلكَ أن تتخيّل موقفكَ وأنتَ على سَفْحِ جبلٍ عالٍ. قدمكَ على الحافّة. وعينكَ إلى الأسفل. إنْ تحركتَ خطوةً وقعتْ. وإنْ فكرتَ في الرجوعِ إلى الخلفِ ولو قليلاً. لَتطلّبَ منكَ الأمرُ ثباتًا واتّزانا.

ما يثيرُ اشمئزازي، مَن يعتبرون أنفسهم ضحايا الإسلام الجدُد، كتلكَ التي كانتْ تنتمي يومًا لبيئةٍ ملتزمةٍ محافظة، ثم تحولّتْ إلى ناقمةٍ على مجتمعها الذي كانت تعيشُ فيه

يريدُ الله عزّ وجلّ إخبارنَا. أنْ ما مِنْ أحدٍ منّا ضامنٌ لحسنِ نهايته. أو متقيّنٌ لماهيّةِ الطريقِ التي سيكملُ فيها حياتَه. فكلّنا معرضونَ لاختباراتٍ في الأخلاق والدين والمبادئ. ولا أحدَ معصومٌ أو مُنزّه. أو بيدهِ مفاتيحُ الجنّة. يوزعها على النّاس كيفَ يشاء. قدْ تستنكرُ يومًا تصرفًا ما. فتجدَ نفسكَ قد وُضِعتَ في نفس الموقف. وقد تستعلي على أحدهم فتأتيكَ العصا من خلفك لِتُسقطكَ في نفسِ الهاوية التي سقطَ هو فيها.

أنا الآن. ألتفتُ مِن حولي فأجدُ كلَّ شيءٍ قد تغيّر. ما كنّا نخجلُ من طرحهِ سابقًا. أصبحنا نتكلّم فيه اليومَ دون حرجٍ. وما كُنّا نخشى مِن مناقشته أو الاقترابِ منه. غَدَا على طاولةٍ مفروشةٍ بالنُّكاتِ والهَزْل. بل أصبحَ الواحدُ فينا يستهزئُ بأخيهِ إن سمعَ أنّه لا يزالُ يسمّي الله أو يأكل بيدهِ اليمين. وتحوّلَ المتمسّكُ بدينهِ اقتناعًا. إلى إنسانٍ. في نظرِ هؤلاء. عاطفيّ. مُعقَّد. بعيدٍ عن إعمالِ العقل. قريبٍ من الجهل.

وأصبحتِ الفتاة التي لا تتفوّهُ بكلامٍ فاحشٍ بينَ كل جملةٍ وأخرى. إلى فتاة "دقّة قديمة". لا تملكُ الجرأة على التمرّد. كيفَ لا وبعضُ فتياتِ هذا العصر. كسرْنَ العادات وانتفضَن وخلعْنَ رداءَ الأنوثة والحياء. وارتديْنَ بدلا عنها حريةً وجدْنَها مُلقاةً على قارعةِ الطريق. وكأنّ الحريةَ بالنّسبةِ لهنّ. تعني بالضرورة التخلّي عن المبادئ والأخلاق والتمرُّدِ عليها.

لقد صدقَ رسولُ الله. صلى الله عليه وسلم عندما قال: "بدأ الإسلامُ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأ. فطوبى للغرباء". مع كلّ ما نراهُ من حولنا. ثبتتْ المقولة. وأصبحَ الخارجونَ عن الدين حديثًا. هم الأشدُّ محاربةً له ممّن لم يكونوا معتنقينَ لهُ بالأصل. وتحول الاستهزاءُ بالدينِ عند هؤلاء موضةً. والتكلّم في المُسلّمات حريةً شخصيةً. والسعيُّ وراءَ لفتِ النّظر قد يمرُّ من بوابةِ نقدِ الآيات. ووضعِ المُقدّساتِ في عناوينَ عريضة لمقالاتٍ أو برامجَ قد يكونُ محتواها فارغًا. خاليًّا من الحُجّة والأدلة الدامغة.

تجاوزَ البعضُ احترامَ الأنبياء والصحابة. ورفعُوا الكُلفةَ. وبدأوا بنشرِ سمومهم وكأنّهم يتكلمونَ عن جارٍ لهُم في الحارة. ولم يعُد افتخارُ البعض مقتصرًا على جنسيّته ولونِه وعرقِه والقبيلةِ التي أتى منها. أو حتى السُلالة التي خرجَ منها. بلْ تجاوزَ هذا الافتخارُ مكارمَ الأخلاق والخصال الحميدة. ووصلَ إلى حدّ افتخارِ البعضِ بالشُّذوذ. فلم نعُد نندهش عندما نجدُ مَن يضع:Gay and proud وكأنّ في تحديدِ ميولهِ الجنسيّ أو لونهِ وعرقهِ ما يدعو للفخر.

الاستماتةُ في الدفاعِ عن المبادئ جهادٌ والحفاظ عليها انتصار، ومسيرُ التشبُّثِ بها يشكّلُ أَرَقًا لكلّ مَن يهمُّه الحِفاظُ عليها
الاستماتةُ في الدفاعِ عن المبادئ جهادٌ والحفاظ عليها انتصار، ومسيرُ التشبُّثِ بها يشكّلُ أَرَقًا لكلّ مَن يهمُّه الحِفاظُ عليها
 

لا يستفزُّني أبدا مَن يخرج ليطعنَ في الدين. حاملًا نفسَ الرُّزمة من الأدلةِ والمُلاحظات التي يرددها غيرُه. وكأنّهم يحفظونَ درسًا واحدًا من الأستاذِ نفسِه. بل ما يثيرُ اشمئزازي. مَن يعتبرون أنفسهم ضحايا الإسلام الجدُد. كتلكَ التي كانتْ تنتمي يومًا لبيئةٍ ملتزمةٍ محافظة. ثم تحولّتْ إلى ناقمةٍ على مجتمعها الذي كانت تعيشُ فيه. وحوّلتْ منشوراتها إلى استهزاءٍ بالدين وسخريةٍ بالمبادئ ودعوةٍ للتحرّر. محاولة لفتَ النّظر. أو ذاك الذي وجدَ في سبِّ الله والقرآن مُتنّفسًا لهُ من عقدٍ عانى منها عندما كان طالبًا في الشّريعة. فخرجَ يبرّرُ هجومَه على الدين بحجّة معرفتِهِ الدقيقة بتفاصيلِه. قبلَ أن يكتشفَ حديثًا جدًا أنّهُ لا ينتمي لهذا الدين. ولا يليقُ بهِ التواجُد في هذا المجتمعِ المختلفِ عنهُ بأشواط. أو ذاكَ الذي حصرَ كلَّ مشاكلِ العالم وكوارثهِ في دينٍ واحدٍ فقط هو الإسلام.

ربّما نقعُ جميعًا في اختبارٍ لمبادئنا. قد تُفتّشُ حساباتنا من ورائنا يومًا. وقد يُضطُّر أحدُنا لأنْ يمسحَ "تغريدةً" كتبَها سابقًا. أو يلغيَ تضامُنًا. أو يعتذرَ عنْ موقفٍ تعاطفَ فيهِ ضدَّ منكوبي الأرض الكُثُر. لأنَّ جامعةً أو برنامجًا قد فرضَ عليه ذلك. وقدْ تتعرض إحداهنّ للمُساومة على حجابها لتحصلَ على وظيفةٍ في مؤسسةٍ ما. فالاستماتةُ في الدفاعِ عن المبادئ جهادٌ والحفاظ عليها انتصار. ومسيرُ التشبُّثِ بها يشكّلُ أَرَقًا لكلّ مَن يهمُّه الحِفاظُ عليها. فهو كَمَن يدخلُ حربًا لا يعرفُ نتيجتَها مُسبقًا. قد نضطرُّ فيها إلى حبسِ أنفاسِنا بعد سباقٍ ماراثونيٍّ طويل. وقد نضطرُّ أحيانًا إلى شحنِ بطارياتنا في كلّ مرة نشعرُ فيها أنّ طاقتنا قد نَفِذت أو أنَّ رصيدنا قد انتهى. وقد نكون الوحيدين في طريقٍ مُوحش. بلا بوصلةٍ أو رفيق. فالثَّباتَ الثباتَ. نرجوهُ ممّن بيدهِ قلوبنا. يحرّكها كيفَ يشاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.