شعار قسم مدونات

السلفية.. أفولٌ بقرار سلطانيّ

blogs السعودية

لما تنكّب كثيرون للميراث الربّاني الحكيم والهدي النّبويّ الشريف، وعقب الهزائم المتتالية التي منيت بها الأمة الإسلامية، شاعت البدع والضلالات ناهيك عن الممارسات الشركيّة بين أفراد أمة التوحيد حتى حادت بها عن جادة الطريق القويم والصراط المستقيم. حينذاك نبتت نبتة الحركة السلفيّة الداعية إلى عودة المجتمع إلى ميراث ربه وهدي نبيه اللذان كان عليهما سلف الأمة الصالح؛ ليعود للأمة ما كان لها في سالفها الجميل في عهدها المنصرم. كان للحركة السلفيّة النّجديّة دورها الحيوي والبارز في التجديد العقَدي للأمة وإحياء التراث الديني عند نشأتها، غير أن دورها كاد يكون منحصراً على أمور عقدية معينة وأمور أخرى مظهرية وشكلية فحسب، جلبها فهمهم الظاهري لبعض النصوص المختطفة من سياقها.

وبرز الإشكال الحقيقي عندما كبرت تلك النبتة وقويت سيقانها وطمعت بأن تصبح ذات فروعٍ ممتدة إلى أطراف متباعدة. فلم تكد تمضي سنون إلا وقد أصبح في كل قُطر مسلم حركة سلفية تسير على ذات النهج النجدي الحرفي برغم اختلاف ثقافة تواجدها وأعرافها عن تلك التي في نجد، فانتشر الزّيّ النجدي بين شباب الحركة في كل أقطار الدنيا، وصُوِّر على أنه الزي السُّني. فلا يكاد أحد يسمع بالسلفية والسلفيين إلا وتَنَادى إلى فكره الرجل طويل اللحية حتى صدره، قصير الثوب حتى فوق ساقيه، وساعته على يمينه، والسواك في يده أو في جيبه. وقل ما يشبه ذلك من اختزال في حجاب المرأة في تفاصيله ولونه. وبالإضافة إلى تلك المظهرية الحرفية، فقد أبرز جلُّ من ينتسب إلى تلك الحركة أنفسهم على أنهم أشخاص يتميزون بالشدة والقسوة على مخالفيهم، حرفيون في فهم النصوص وإسقاطها على الواقع، كثيرو التبديع والتفسيق لأغيارهم من المسلمين وكذا التكفير في أحيان كثيرة.

ولعل أبرز ما ميّز الحركة السلفية -خصوصا في هذه الآونة- كونهم يتجهون أينما اتجهت بوصلة السلطان، ويدورون مع زجاجته حيث دارت، ويُشرّعون له كل ما يتوافق ورغائبه، ويحملون على مخالفيه حد وصفهم بالخوارج، بل حتى وصل أحد كبرائهم مؤخراً أن يقول عن حاكم قُطره الذي جاءت به الانتخابات المزوّرة والدبابات: (إن السلطان لا ينازع في سلطته، والانتخابات حرام!). بل وصل الأمر بإمام الحرم المكي الشريف أن يسِم الولايات المتحدة الأمريكية بأنها راعية السلام إلى جانب دولته، وأن حاكمها إلى جانب حاكم دولته هما قائدا العالم إلى مرافئ الأمن!

 بلاد الحرمين الرسمية قررت بغتةً أن تنسلخ من رداء الشريعة، وتولي ظهرها للكعبة نحو الانفتاح والعصرنة والسينما وهلم جراً
 بلاد الحرمين الرسمية قررت بغتةً أن تنسلخ من رداء الشريعة، وتولي ظهرها للكعبة نحو الانفتاح والعصرنة والسينما وهلم جراً
 

هكذا رمت الحركة نفسها بين أحضان السلطة العابثة التي رمت بها نحو تحقيق مآلاتها غير الشريفة، وسلمتها كل مفاتيحها ومغاليقها، ذلك إن لم تكن السلطة هي ذاتها من ابتكرت الحركة وغذتها وألبستها مظهر التدين الزائف؛ لتقضي بها أغراضها وتحقق بها طموحاتها وتسوّغ بها فعالها، كما هو الأمر بجماعتيّ الجاميَّة والمدخليَّة المخابراتيَّتين، وهما اللتان كانتا ولا تزالان الوبال الفكريّ الشّديدِ وقعه على الأمة.

ولعل من أشنع البدع التي جاءت بها السلفية المعاصرة تبعيتها للسلطان كظله في قراراته ومحاباة شرعيته، وقل مثل ذلك مع مرجعياتهم الدينية. وهم في ذلك -بجهل أو بمعرفة- يخالفون منهجيتهم المزعومة القائلة بالاجتهاد ومحاربة التعصب والجمود والتعصب. بل هم بذلك يشبهون ألدّ خصومهم من المتعصبة الصوفيّة. ومِن بِدعهم البديعة كذلك تأييدهم الخروج على الحاكم والثورة عليه كما في تركيا وإيران، أو سكتوا عن إنكارهما على الأقل. وفي ذلك أيضاً حَيدٌ عن أسطورتهم القديمة في الحول دون الخروج على السلطان أيّاً كان ومهما فعل.

وفي الفترة الأخيرة بدا أن بلاد الحرمين الرسمية قررت بغتةً أن تنسلخ من رداء الشريعة، وتولي ظهرها للكعبة نحو الانفتاح والعصرنة والسينما وهلم جراً. وذلك يتطلب أن يتحول مجرى تدفق المال والحظوة إلى الليبرالية، ويُسحب البساط من تحت أقدام السلفية. وليس للسلفية حينئذ إلا أن تختار أحد الأمْرين الأمَرّين: فإما الانقلاب على منهجيتها فتتغيّر بذلك ماهيّتها الحالية فلا يعود لها حظوتها عند السلطان، أو التّلون بلون التغيير الجديد فتصير بذلك مسخاً بعد مسخ. والذي أتوقعه -والله أعلم- أنه أفولٌ سحيقٌ للسلفية قضى به السلطان الذي جاء بها أو مرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.