شعار قسم مدونات

السيادة المقدسة

مدونات - الجاسوس البريطاني
من الذي قال أننا نعيش في دول وقارات تحكمها علاقات وحدود واتفاقيات؟ هذا الشكل الحضاري مجرّد قميص يجب أن نخلعه عند إجراء " x-ray" التشخيص. هي نفس الغابة التي كنّا نضرب بها المثل في الاستقواء والفوضى ما زالت حاضرة بكل ما يجري وسيجري على رقعة السياسة اليابسة، لكنها تأخذ شكلاَ أكثر مدنية لسكّان بأسماء مستعارة.. وعليه صرنا نرى القرد بربطة عنق، والحمار بنظّارة الحكمة، الخنزير يُنادى بسيادة الرئيس والفأر صاحب جلالة، والثعلب يرتدي "لفّة" المفتي، والنمر يضع على رأسه شارة الصليب الأحمر ليداوي الغزلان المصابة أثناء مطاردته الأخيرة!..
 

وبما أننا نعيش في عالم الغابة أو غابة العالم.. فالدول جمهوريات وولايات وممالك مجرّد محميّات، عند مسّ سيادتها قد تسمع زئيراً مرعباً أو عواء كاذباً أو مواء ضعيفاً أو لا صوت كمرعى الزرافات الصامت الذي يسود عالمنا العربي المستباح..

 

جاسوس روسي يدعى " سيرغي سكريبال" تعرّض لمحاولة اغتيال في بريطانيا قبل أسبوع بغاز الأعصاب السام، فور وقوع الحادثة لم توار بريطانيا رأسها خوفاً من المواجهة، ولم تنسب محاولة الاغتيال إلى القضاء والقدر أو عزت التسمّم إلى تناول "صحن حمّص" فاسد فوجّهت التهمة إلى صاحب المطعم، كما أنها لم توجّه إعلامها الحكومي ليسوق "هبله" على الشعب البريطاني والرأي العام، فتارة يعزي سقوط الجاسوس على الأرض نتيجة الإرهاق الشديد أو نتيجة ذبحة صدرية مفاجئة، حتى لو كان هو وابنته الشابة يعانون من نفس الأعراض قفي بلادنا العربية -وحسب إعلامها- تأتي الذبحة الصدرية بالحجم العائلي أيضاَ..

 

ببساطة نحن لا نفهم السيادة حتى نقدّسها لأننا لم نجرّبها حتى نقاتل لأجلها…تماماً كما لو أعطيت العبد ألف قصيدة عن الحرية، ربما سيخبئها، لا لأنه أحبها، بل ليمسح بها حذاء سيده..

منذ اللحظة الأولى لوقوع الحادثة طلبت الحكومة البريطانية توضيحاً رسمياً من روسيا حول محاولة الاغتيال وتركت مهلة للرد، وكعادة الروس في مواجهة ورطاتهم يتهربون من الإجابة ويحاولون أن يردّوا التهمة بالتهمة فقد نفدت ساعات المهلة ولم تتلق بريطانيا ردّاً رسمياً مقنعاً.. فجاء الإجراء الصارم طرد 23 دبلوماسياً روسياً من بريطانيا وتهديد بقطع العلاقات وعدم المشاركة في مونديال روسيا وكسب تأييد حلف الناتو بالتصعيد البريطاني..

 

هذا الإجراء هو الصوت "الغابي" للزئير، الذي لا تتقنه إلا الأسود في وجه كل من يمسّ هيبتها، أو يحاول أن يعبث بجوهرة التاج، حتى لو كان الخصم دباً صديقاً أو شريكاً مألوفاً بالافتراس، فالشعر الأسود الكث وكتلة الجسد لا تمنحه حق الاقتراب من الحمى، أو مس السيادة.. فالسيادة أمر مقدّس لمن يعرفون معنى السيادة ولمن يدركون هيبة الوطن!..

نحن في محمية زرافات الصمت ومراعي الجمال الجرداء، لا نزأر إلا في وجوه بعضنا بعضاً، ونموء خوفاً وتوسلاً في حضرة العيون الزرقاء، منذ الأزل نخاف العيون الزرقاء، نشعر بعلو شأنها وقوة بطشها، نصبح عبيداً فور الجلوس إليهم حتى لو جاؤوا خدماً لنا، فور النظر في عيونهم نضع الصخرة على بطوننا ونشرك بكل شيء ونعبدهم..

  

الجاسوس الروسي
الجاسوس الروسي "سيرغي سكريبال" (الجزيرة)

 

سألت نفسي ماذا لو نفّذت هذه العملية الاستخباراتية ضد الجاسوس الروسي على أرض عربية ورش بغاز الأعصاب وسقط أرضاً كيف تتصرّف حكوماتنا..؟ حتماً ستكون هذه نماذج لعناوين نشراتنا: سائح روسي يتعرض للإغماء بسبب نقص السُّكر، لا شبه جنائية حول فقدان الوعي للروسي وابنته، السفير الروسي يطمئن على صحة المواطن الروسي الذي يعاني الغيبوبة، الرائحة الغريبة التي انتشرت في المكان تعود إلى طنجرة ملفوف "أم العبد" فوق الرصيف الذي كان يمشي عليه الجاسوس.. وبعد الحادثة بساعات قليلة، يتم تهريب المجرمين برعاية رسمية وتكتم شديدين.. ثم يبدؤون البحث عن متّهمين وهميين ليغلق ملف القضية..

 
ببساطة نحن لا نفهم السيادة حتى نقدّسها لأننا لم نجرّبها حتى نقاتل لأجلها.. تماماً كما لو أعطيت العبد ألف قصيدة عن الحرية، ربما سيخبئها، لا لأنه أحبها، بل ليمسح بها حذاء سيده.. ببساطة لأنه لم يجرب الحرية من قبل أبدا.. وكذا نحن!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.