شعار قسم مدونات

الساندويشة الصّالحة

blogs أصدقاء

عام ٢٠٠٣ صدرت أغنية بعنوان! Hey Ya، عندما تم تقديمها للإذاعات لشراء الحقوق، اتّفق المعظم أنّها ستتصدّر القائمة عندهم فسارعوا بشرائها، ولكنّهم تفاجئوا أنّها لم تنجح النجاح المتوقّع، وذلك لأنّ وقعها السّمعيّ غريب، بمعنى أنّ الموسيقى والكلمات جديدة من نوعها، والإنسان بشكل عام يحبّ المعتاد أكثر من المختلف وغير المألوف. ففكّروا بطريقة أخرى لتسويق هذه الأغنية..

 

لننتقل الآن لموضوع اللّحوم، ونعود من جديد للأغنية.. في الحرب العالميّة الثّانية، كانت أمريكا تُصدّر كميات ضخمة من لحوم البقر والخنزير لأوروبا، فقد كانت أهمية البروتين للجيوش تعادل أهمية الدبابات. أدّى ذلك لنقص حاد في اللحوم في أمريكا مما اضطر البعض لاستخدام لحوم الخيل، وبروز السوق السوداء لبيع اللحوم والتي بسببها انتشرت الأمراض. ففكّر بعض التجار بعملية صحية وسليمة لتسويق قطع من اللحم لم يعتد المواطن الأمريكي على تناولها، مثل "الكبد، اللّسان، الرّقبة"، والتي كان يفضّل الشّخص أن يصبح نباتيّاً على تناولها. (لاحظوا، في تلك الفترة لم تتوفّر الأنظمة الغذائية البديلة التي توفّر البروتين دون الحاجة لتناول لحوم).

 

ولتسويق ما ذُكر أعلاه، بدأت المحلات التجارية حملات إعلانية ضخمة تستهدف النّساء "مائدتك بدون لحمة الكبد، ليست بمائدة"، "لصاحبات الذّوق الرّفيع إليك هذه الوصفة"، وصارت المحلات توزّع مجاناً وصفات مميّزة ومتنوعة لطهي الكبد واللّسان. انتشر بيع هذه القطع، ولكن ليس بالمستوى المطلوب، فلجأوا لحلّ يسمّى "الساندويش"، وهو بيع أي قطعة ستيك "والتي كانت مرتفعة الثمن لقلّتها" مع الكبد، وأنّ الستيك بدون كبد يُعتبر بخلاً، تماماً كالسّلطة دون التّوابل. فبدأت العائلات الغنيّة بشراء الستيك مع الكبد وأصبحت "موضة" Trending، وعندما انتبهت الطبقة المتوسطة والأقل "الجزء الأكبر من الشعب" إلى أنّ الكبد أصبح من وجبات الأغنياء، صاروا يتسابقون لشرائه دون شراء الستيك، وبهذا أصبح الكبد واللسان و"المخ" من أشهر الوجبات الأمريكيّة في ذلك الوقت.

 

كل غير مألوف تختلف وجهة نظرنا عنه ويختلف هو لو تمّ وضعه في بيئة مختلفة ومحيط جديد. قد يصبح أسوأ وقد يصبح أفضل، ولكن هذه النّقطة مفتاح سحريّ للتغيير ولمن يبحث عنه

لنعد الآن لموضوع الأغنية Hey Ya!.. درس فريق الإذاعة سبب فشلها، وتأكدوا أنّ السبب هو أنّها "مختلفة/غريبة/جديدة/غير مألوفة" تماماً كالكبد واللّسان والرّقبة، فإذاً على فريق التّسويق الآن العمل على جعلها "مألوفة familiar" لتحقق النّجاح المطلوب. قاموا بإعادة ترتيب إذاعة الأغاني، ووضعوا أغنية Hey ya بين أشهر الأغاني في ذلك الوقت، منها أغاني سيلين ديون، فأصبحت غَرابة الأغنية أقل من السّابق، بل أصبح كل من يغني سيلين ديون يغني hey ya بعدها تماماً وتلقائيا، وأصبح عدد من يغيّر هذه المحطّة الإذاعيّة كلّما جاءت أغنية Hey ya من ٢٣٪ من المستمعين، إلى ٥٪. وبعدها صارت الأغنية من الأكثر انتشاراً، بل وفازت بجائزة الجرامي العالميّة كواحدة من أفضل الأغاني في ذلك الوقت. فاذاً، ما العامل المشترك بين القصّتين؟ أنّ الانسان بطبعه ينجذب للمألوف، ومن أساليب التّسويق الناجحة ليس بالضّرورة صناعة مُنتَج مألوف، بل إيجاد طريقة لجعل غير المألوف، مألوفاً. هذه المعلومات قرأتها وحللّتها من خلال مطالعتي لكتاب: قوّة العادات، ولكن: لننظر الآن لعلاقاتنا الاجتماعيّة..

 

عندما يقوم مشهور ما بجريمة فادحة من غشّ أو خداع أو سرقة او اغتصاب، يقوم فريق مختصّ على العمل على إعادة ترميم سُمعته وتلميع اسمه من جديد لإعادته تدريجيّاً إلى السّوق. ومن الطّرق الشهيرة في ذلك هو وضعه بين شخصيات إيجابية ومحبوبة اجتماعيّاً وأحيانا يتم الدفع لها، وأحياناً أخرى تكون مصالح متبادلة. ما أن ظهر هذا المحتال/المجرم بين فئة محبوبة، أصبح اسمه محبّباً أكثر من جديد ووجوده مألوفاً من جديد، أي تمّ وضعه في "بِطانة/ساندويشة" صالحة، حتّى وإن كان هو "الغريب".

 

والجميل في كلّ الأمثلة المذكورة فكرة "البطانة الصّالحة" التي تتردد في كلّ دروس أيّام الجمعة، أو "الرّفقة الصّالحة" والتي تتردد على ألسن الأمهات تدعوا لأبنائها أن يرزقهم إياهم. فالإنسان تكون طبائعه حسب محيطه. نستغرب أحيانا إنسان كثير الكراهية والشتم أو الحقد، ولكن ما أن نظرت حوله ستكتشف أنّ بيئته الطبيعية جعلته من الطبيعي أن يكون بهذا الشّكل، وما أن انتقل لبيئة/مجتمع/زواج جديد، تتغيّر الكثير من خصاله.

 

كل غير مألوف/غريب/غير مستحب تختلف وجهة نظرنا عنه ويختلف هو لو تمّ وضعه في بيئة مختلفة ومحيط جديد. قد يصبح أسوأ وقد يصبح أفضل، ولكن هذه النّقطة مفتاح سحريّ للتغيير ولمن يبحث عنه. البيئة والمحيط و "الساندويش" الذي أنت في منتصفه، يصنّفك، ويعطيك من صفاته شئت أم أبيت. فادرس "ساندويشتك"، لتعرف سبب الكثير مما أنت عليه الآن. هنا ستجد مفتاح التّغيير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.