شعار قسم مدونات

السودان عربي حين يريدون.. إفريقي دون ذلك!

مدونات - سودان
 
تتعالى الأصوات وتتداخل الكلمات ويكثر اللغط والهرج فبين مدافع عن عربية مرجعية وإفريقية جغرافية بل وحتى قومية ذاتية تحفظ له مكانته الخاصة وحالته الفريدة التي جعلته خليطا يجمع طرفي المعادلة، كما يدافع القسم الثالث الأكثر توسطا يقبع السودان في مفترق الطرق تتجاذبه الأطراف وتتقاذقه الاتجاهات بين مدافع عن عروبة وناف لها وبين مؤكد على إفريقية خالصة نافيا كل ما سواها يجد السودان والسودانيون أنفسهم بين مطرقة وسندان فريقين متنازعين يحاول أحدهما إقصاء الآخر.

 

ولست هنا لأرجح كفة أحد الفريقين أو أنصر أحدهما على الآخر فلذلك أهل الاختصاص وهم أولى بذلك، لكنها محاولة لفهم منشئ الفريقين ومحاولة لاستنباط منبعه وإدراك أبعاد الفريقين المنتازعين سواء في السودان أو في غيره من الدول التي تحتوي على عدد مختلف ومتنازع من الإثنيات والأعراق المختلفة والتي تدعو هي الأخرى مطالبة بالحفاظ على شيء من تراث تلك الأعراق التي تعتبر نفسها والتي هي في الحقيقة جزء كبير من المكون الطبقي والاجتماعي لتلك الدول وخاصة القابعة في الشمال الأفريقي منها.

 

نزاع قديم جديد أفرزته تداعيات ذلك الازدواج في التعامل مع بلد ذو مكانة وموقع جغرافي خاص كالسودان بالنسبة لمحيطه الإقليمي والعربي، فالسودان يمتلك موقع استراتيجيا وحيويا مما يجعله يطل من بوابته الشرقية على محيطه العربي وغربا وجنوبا على محيطه الإفريقي الأمر الذي لو استغل كل الاستغلال لكان السودان بوابة الدول العربية على القلب الإفريقي الذي يدرك العالم العربي والعالم جميعا دوره وأهميته خصوصا في تعاظم بعض الدول الإفريقية وظهورها مؤخرا كقوة اقتصادية نامية وتمتع كثير من الدول الإفريقية بموارد ضخمة وأراض خصبة ومواقع استراتيجية تجعلها محط أنظار الكثير من الدول.

 

السودان أصبح اليوم بجهود شبابه محاولا عكس صورة حقيقة للسودان بطبيعته الخلابة وأثاره العريقة لا الصورة النمطية التي ترسخت في أذهان محيطه العربي كمرتع للحروب والمجاعة

فموقع السودان القابع في الشمال الشرقي للقارة الإفريقية حيث يحل مطلا شرقا على البحر الأحمر ويجعله مجاورا لعدد من الدول العربية كمصر وليبيا شمالا والمملكة العربية السعودية التي يفصلهما البحر الأحمر يجعله ذا أهمية كبرى لمصالح الدول العربية المجاورة أو حتى البعيدة منها، ولكن في السياق السياسي والدولي يجد السودان نفسه في عزلة عن محيطه العربي تتحكم بقربه وبعده سياسات الدول فيحتضنه محيطه العربي عند تعاظم المصالح وحوجة الدول إلى الاستفادة من دور السودان وخيراته أو موقعه الاستراتيجي.

 

بينما يعزل السودان ويبعد عن محيطه العربي عن انقضاء وانتفاء تلك المصالح الأمر الذي ما كان ممكنا لولا تذبذب السياسة السودانية الخارجية الحديثة، مما جعله يرتمي في الحضن العربي بدون وجود دور مؤثر وملحوظ بعد أن كان السودان يلعب دورا مؤثرا وواضحا في السياسيات العربية الإقليمية وحتى الإفريقية منها فكانت السودان لاعبا اساسيا في سن السياسيات العربية ووضعها خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي فكان مؤتمر اللاّت الثلاث الذي أقيم في السودان بعد نكسة عام 1967 خير مثال على دور السودان في توحيد الصف العربي واثبات الرؤى في مؤتمر خرج بلاّت ثلات لا سلام مع إسرائيل لا اعتراف بها ولا مفاوضات معها وكانت نتيجة ذلك مرحلة طويلة من الصراع العربي الإسرائيلي إلى التوقيع على اتفاقية أوسلو من قبل ياسر عرفات عام 1993.

 

الدور الذي تراجع مؤخرا مع تتابع الحكومات السودانية ووصول حكومة الإنقاذ إلى السلطة مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد انقلاب تم في ال 30 من يونيو 1989 كان على رأسه العميد عمر حسن أحمد البشير ليستولي على سدة الحكم ويجد الانقلاب الذي جاء على الحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي في ذلك الوقت إقبالا وتشجيعا من الدول الكبرى والمجاورة والعربية، ولكن سرعان ما ظهرت هويتها الإسلامية المتمثلة في الجبهة الإسلامية القومية المنشقة من جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم أطلق صراح حسن الترابي الذي قلد مناصب عليا لتبدو الصورة جلية بتخطيط مسبق ويلاقي معارضة شديدة من وسطه الداخلي خاصة بعد إعلان الشريعة الإسلامية فتكون التجمع الوطني الديموقراطي.

  

 عمر البشير (رويترز)
 عمر البشير (رويترز)

 

وانضمت له حركة تحرير السودان واستمرت الحرب في الجنوب وقامت الدول الغربية باحتضان ذلك التجمع خصوصا بعد ارتفاع نبرة العداء من تجاه الدول الغربية وأدى إلى ابتعاد السودان عن محيطه العربي، ومما فاقمه موقف الحكومة السودانية من حربي الخليج الأولى والثانية تلتها اتهام الدول الغربية للسودان بإيواء عدد من المطلوبين بتهم الإرهاب وكان على رأسهم أسامة بن لادن التي أدت "إلى محاصرة السودان اقتصاديا من قبل الدول الغربية وحتى من محيطه العربي والخليجي منه بل وحتى قصف الخرطوم في حادثة مصنع الشفاء الشهيرة في أغسطس عام 1998.

 

الأمر الذي دفع السودان "إلى الاتجاه شرقا للصين تحديدا مع طفرة اكتشاف النفط الأمر الذي ساهم في تخطي السودان لذلك الضغط والحصار وبرغم الحرب المشتعلة في السودان إلى عام 2005 حيث وقعت اتفاقية نفياشا التي تنص على منح الجنوب حق تحقيق المصير التي انتهت عام 2011 بانفصال جزء حبيب من السودان وهو الجنوب بجميع خيراته وبما يقارب ثلثي الاحتياطي النفطي للسودان. ويعود السودان فيصبح الثالث عربيا والثالث إفريقيا مساحة بعد أن كان الأكبر عربيا وإفريقيا والعاشر عالميا بعد فشل عربي في لعب دور الوساطة ما عدا دور قطري في محاولات للعب دور الوساطة في نزاع إقيلم دارفور المسلح.

 

برغم الجهل الكبير والتقصير الكبير لإيصال السودان لمحيطه العربي، يبقى الناشر الأول ووسيلة الإعلام الأولى كانت سببا في نشر وتصحيح الفكرة عن السودان وطنا وشعبا هو المواطن السوداني البسيط

خلاف ذلك لم يكن هناك دور يذكر عربيا بل كانت من أسباب تعظيم الشقاق وتأجيج الحرب الأهلية السودانية بين الشمال العربي كما يزعم والجنوب متناسين الاختلافات الأثنية والاجتماعية والعقائدية مما يجعل السودان حالة فريدة من اختلاط الأجناس والأعراق، الأمر الذي لم تستطع الحكومات المتتالية استيعابه وظلت مراهنة على شقها العربي بعيدا عن أي اعتبارات أخرى. وحتى اليوم ما زال السودان يعاني تخبطا في سياسته الخارجية خصوصا في تدهور الوضع الاقتصادي الذي تعاظم بعد انفصال الجنوب واستمرار العقوبات الأمريكية والوعود المتكررة برفعها الأدوار التي تلعبها دول في محاولة رفعها والتوسط لذلك أو رفع أيديهم ودعوات للإبقاء عليها في أحيان أخرى متمثلة في الازدواجية التي يتعامل بها مع السودان حسب المصالح اللحظية، فيجد السودان نفسه في حضنه العربي أحيانا وعندما يبتعد يعود كما حدث عند المقاطعة بعدما ما تنامت العلاقات السودانية الإيرانية قبل أن يعود السودان إلى الحضن العربي والخليجي مجددا بل وحتى يشارك في عاصفة الحزم التي تقودها السعودية في اليمن.

 

أما على الصعيد الشعبي فحال المواطن السوداني ليس بأفضل حالا فما أن يظهر تعليق هنا أو هناك حتى تتعالي الأصوات من جديد ولعل سؤالا في أحد مواقف التواصل الاجتماعي مستفسرا عما يعرفه عن السودان ليفاجئ بإجابات مرعبة فالسودان أصبح اليوم بجهود شبابه محاولا عكس صورة حقيقة للسودان بطبيعته الخلابة وأثاره العريقة لا الصورة النمطية التي ترسخت في أذهان محيطه العربي كمرتع للحروب والمجاعة.

 
فلا تكاد تتعدى معرفة السودان تلك الصورة النمطية بل أكثر من ذلك عدم وجود خلفية مطلقة عن السودان وطنا وشعبا لدى الكثيرين، الأمر الذي يقود إلى سؤال جوهري عن بعد السودان الكبير عن محيطه العربي والإفريقي وخاصة على المستوى الشعبي منها هل هو ضعف الجيل الجديد وعدم رغبته في تحصيل أي نوع من أصول المعرفة؟ أم هي تلك الصورة النمطية التي لطالما أظهرتها وسائل الإعلام عن السودان بحروبه وأزماته؟ أم هو الغياب التام للدراما والفضائيات السودانية التي كانت سبب في عزل السودان وعدم معرفة محيطه العربي بما يعتري في هذا البلد الذي سواء أحب البعض أم لا ينطوي تحت قائمة بلدان عربية التي تضم 22 دولة تتوزع في قارتي آسيا وأفريقيا.
  
وبرغم الجهل الكبير والتقصير الكبير لإيصال السودان لمحيطه العربي خصوصا الإقليمي عموما يبقى الناشر الأول ووسيلة الإعلام الأولى كانت سببا في نشر وتصحيح الفكرة عن السودان وطنا وشعبا هو المواطن السوداني البسيط المنتشر في كل بقاع الأرض ليكون هو المصدر الأول والمرجع لتصحيح صورة لوطن لطلما رسمت بفرشاة من دم كناية على الصورة النمطية التي لطالما نظر بها إلى السودان. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.