شعار قسم مدونات

الموت وطقوسه (1)

blogs رجاء بن سلامة

(الموت وطقوسه؛ من خلال صحيحَي البُخاريّ ومُسلِم) للدّكتورة رجاء بن سلامة، والمؤلّفة تونسيّة، وباحثة أدبيّة، ومحلّلة نفسيّة. يتكوّن الكتاب من حوالي (300) ثلاثمئة صفحة من القطع الصّغير، ويبدو أنّه دراسةٌ قامت بها الكاتبة في مرحلة الماجيستير أو الدكتوراه، وقد كان الباعث – مِمّا استنتجتُه من مقدّمة الكتاب – على القيام بهذه الدّراسة هو موت والدها. وقد ناقشت فيه الموت بطريقة فلسفيّة عقديّة خالية من القناعات المسبقة ومعتمدةً اعتمادًا كلّيًّا على صحيحَي البخاريّ ومُسلِم، وهذا ما أعطى بحثها شرعيّةً ومصداقيًّةً عاليَتَيْن، ومع أنّ الكتاب يحرّك خلايا الذّهن، ويوقد شعلة التّفكير أو إعادة التّفكير في فهم النّصوص، إلاّ أنّ بعض هذه التّفسيرات والتّأويلات الّتي أتت بها الكاتبة بدت جريئة جدًّا وخطيرة …

 

ولا أكتم أحدًا سرًّا إنْ قلتُ: إنّني توقَّفْتُ مليًّا عند هذه التّحليلات وتباينت مواقفي تُجاهها، أيّدتُها أحيانًا، أعُجِبْتِ بها أحيانًا أخرى… خِفتُ منها أحيانًا ثالثة… وفي كلّ الأحوال فتحتْ عيني على مقدار الجهل الّذي كنتُ أعيشه بعيدًا عن رياض هذين الصّحيحَيْن اللّذين لا يعرف منهما كثيرٌ من النّاس إلاّ بعض الأحاديث المشهورة، وأنا أوّل هؤلاء… ولهذا السّبب فقد قرّرتُ أو قُلْ تشجَّعْتُ لإعادة قراءتهما والغوص في محيطهما، واستخراج كنوزهما النبويّة الثّمينة..

 

كنتُ كلّما قرأتُ حديثًا أو بعض حديثٍ لم يمرّ عليّ سابقًا، ويُدهشني بأسلوبه، ومضمونه، كنتُ أردّد مع الشّافعيّ:

 كُلّما أَدَّبَنِي الدَّهْــ    ـرُ أَرانِي نَقْصَ عَقْلِي

وَإِذا مَا ازْدَدْتُ عِلْمًا  زَادَنِي عِلْمًا بِجَهْلِي

 

الموتُ مفارقةٌ عجيبةٌ؛ فهو يقين، يقين لا يمكن التّيقّن من فحواه، بما أنّ الذّات إذ تموت ينعدم وعيها. وهو يقين ينفي نفسه، لأنّ الذّات تعلم أنّها مائتة لا محالة، ولكنّها لا تستطيع تصوّر فنائها

تقول المؤلّفة في كتابها عن كتابها مشيدةً به، وبطريقتها في عرض ما خلصتْ إليه: "إنّه يبقى دراسةً مختلفةً عن الكمّ الهائل من الكتب الصّفراء عذاب القبر وأشراط السّاعة وأهوال القيامة والعوالم الأخرويّة، إضافةً إلى كتب الحجاب وذمّ النّساء، وكلّ ما ساهمَ في انتشار الخوف والشّعور بالإثم، وانتشار العصاب الوسواسيّ الدّينيّ، وهو ما غَذّتْهُ الفضائيّات العربيّة بدُعاتِها وخطبائها. هؤلاء الدّعاة والخُطباء لا يتحدّثون عن الموت باعتباره خاتمةً، بقَدْرِ ما يجعلون الحياة موتًا مستديمًا قبل الموت، أو رقصة موتٍ مُقدَّس".

 

تُحاول الكاتبة في بعض صفحات الكِتاب أن تُقارِنَ بين المُتشابهات في اللّفظ في هذين الصّحيحَيْن، لتتساءل عن العلاقة بينها، معتمدةً في ذلك طريقة المُفاجأة في إلقاء اللّفظة في وجه القارئ، لكنّها تتغافل – حين تفعل ذلك – عن سعةِ اللغة في إلقاء الظّلال على الكلمات المُتشابهة حتّى تعود – وهي هي من حيثُ اللّفظ – لا علاقة تربط بين واحدةٍ ونظيرتها … واسمع إليها تَتَفَذْلَكُ في هذا الموضوع من خلال هذا الكلام، تقول: "الموتُ مفارقةٌ عجيبةٌ؛ فهو يقين، و(اليقين) اسمٌ من أسمائه في مُدوّنة الحديث، ولكنّه أوّلاً يقين لا يمكن التّيقّن من فحواه، بما أنّ الذّات إذ تموت ينعدم وعيها. وهو ثانيًا يقين ينفي نفسه، لأنّ الذّات تعلم أنّها مائتة لا محالة، ولكنّها لا تستطيع تصوّر فنائها وقد تُنكره، لا لأنّه مريرٌ مأساويٌّ فحسب، بل لأمرٍ آخر انفرد فرويد بذكره عندما كتب: في لا شعورِ كلّ واحدٍ منّا إقرارٌ بخلوده. فالإنسان سواء كان مؤمنًا بالبعث أو غيرَ مؤمنٍ به يُقرّ في أعماق نفسه بخلوده".

 

أمّا أنا فأرى أنّ كلام فرويد يجب أن يُعدّل، إلى أنّ الإنسان لا يُقرّ في أعماق ذاته أنّه خالدٌ، ولكنّه يُخَيّل له ذلك، أضفْ إلى أنّه يسعى إلى ذلك وهو يعلم أنّ سعيه سوف يصير هباءً، إذ إنّه لم يخرج عن دائرة الموت أحدٌ بما فيهم الأنبياء، ولم يُفلِت من حومة الفناء بشرٌ أبدًا…

 

وتحاول الكاتبة في بعض مواضع الكتاب أن تطعن في صحيحَي البُخاريّ ومسلم، من خلال نقلها كلامًا لمستشرقين أو أجانب يلمزون بالصّحيحَين دون أن تردّ عليه، أو تناقشه، أو تبيّن عواره، وهذا يدخل من باب دسّ السُّمّ في الدّسم، فها هي تقول في أحد مقولاتها: "يقول دوزي: يرى أكثر النّقّاد تشدّدًا أنّ نصفَ أحاديث البخاريّ صحيحة". أقول: فما معنى هذا الكلام …؟! وما الكلام المخبوء خلفه؟! ألا تريد هذه الكاتبة أن تقول لنا من وراء سِتار: بما أنّ نصف أحاديث البخاري صحيحة؛ فإنّ نصفها الآخر غير ذلك!!! انظر إلى التّمويه وإلى التّدليس، وصحيحٌ أنّ هذا الكلام ليس لها، ولكنّها لم تُفنّدْه؛ بل على العكس من ذلك، مضتْ تُورِدُ أقوال المتشكّكين فيصحّة البخاريّ ومسلك؛ كبلاشير وغيره…

 

كتاب
كتاب "الموت وطقوسه من خلال صحيحي البخاري ومسلم" (مواقع التواصل)

وتتطاوَل أحيانًا الكاتبة في تفسيراتها، أو قل إنّها – على الأقلّ – تتجرّأ في فهم النّصوص بِما قد يقود إلى الخروج بالمفهوم عن مساره إمّا فذلكةً أو تعنًّتًا أو بقصد الإساءة، والله أعلم في كلّ حال… فمن ذلك أنّها تُورِدُ الأحاديث الّتي تقول: إنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم كان يخرج في ليلة عائشة إلى بقيع الغرقد ويزور قبور الصّحابة ويكلّمها… وأنّ ذلك تكرّر أكثر من مرّة… فتقول – في الفحوى – : لماذا نهى الإسلام عن عباد القبور والأجداد، ألم يكن فِعل الرّسول صلّى الله عليه وسلّم من هذا الباب؟! أليست العبادة تكرار لفعلٍ ما على نحوٍ ما؟ ألا نُسمّي زيارة الرّسول للقبور على هذا النّحو المتكرّر عبادة؟!

 

اسمعْها تقول ذلك بالنّصّ: "ويمكن أن نعتبر زيارة الرّسول لبقيع الغرق، كما يُصوّرها الحديث شكلاً إسلاميًّا (باهتًا) من أشكال عبادة الأجداد". وتكون الكاتبة ذلك نسيت أو تناستْ أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم كان يذهب إلى القبور ليدعو لأصحابه من الشّهداء والموتى، ويتّعظ – كما أخبرنا في تفسيره لدعوته لنا إلى زيارة القبور – بمصير كلّ حيّ… ولم يكن – حاشاه – يؤدّي أيّ نوعٍ من العبادة.. فانظر إلى هذه الجرأة من الكاتبة في الوقت الّذي كان يجدر بها أن تقول: إنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قدّم النّموذج الأعلى، والقدوة المُثلى في الاتّعاظ بمصاير الأموات في قبورهم، ولم تكنْ نبوّته، ومغفرة الله له، وغِناه عن الذّهاب إلى القبور للعظة بمانعةٍ إيّاه من فِعْل ذلك حَثًّا منه للمسلمين على تذكّر الموت، لأنّه يقرّب المؤمن إلى ربّه، ويعجّل بتوبته، وإنابته إليه…!!

 

غير أنّ الكاتبة تنتزع منّي أحيانًا بعض الإعجاب في طريقة تصويرها للمُسلّمات، فتعرضها بأسلوب جميل، فمن ذلك قولها: "فكأنّ الحياة دَيْنٌ لله على الإنسان، ومِنَ المنطقيّ والمعقول أن يستردّه يومًا، وتظهر هذه المبادئ في بعض عبارات المُعجَم الّذي استخرجناه، فالموت: رجوعٌ؛ لأنّ الذّاهب لا بدّ أن يؤوب، وهو: إجابةٌ؛ لأنّ النّداء لا بُدّ أن يُلَبَّى. وهو: لَحاقٌ بالرّسول؛ لأنّه لا بدّ لكلّ سابقٍ من لاحقٍ".

 

غير أن مسلسل التّجديف، والتجرّؤ في غير موطنه يستمرّ في معظم صفحات الكِتاب، فها هي تكتب ناقلةً: "وقد أرّخ شونسي لهذه الفكرة؛ أي: زيف الحياة الدّنيا وزوالها في: (أفكار محمّد في الموت) فاعتبرها متأخّرة. فقد خاف محمّد الموت ككلّ إنسانٍ، لكنّه سيطر على هذا الخوف باهتمامه المتزايد بفكرةٍ ذكَرَها مرّةً في الفترة المكّيّة الثّانية، وتسع مرّات في السّنوات الأخيرة بمكّة، وكرّرها ما لا يقلّ عن ثلاثٍ وأربعين مرّةً في المدينة: الحياة الدّنيا الّتي يُفارقها الإنسان بموته لا تستحقّ أن نتعلّق بها".

 

نأت الكاتبة عن الحقيقة كثيرًا، وسمحتْ لنفسها بالتّأويل الّذي لا يحتمله السّياق، ونسيتْ أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بشرٌ، يعتريه ما يعتري البشر من الحزن والفرح، وقد حَزِنَ على موت فلذة كبده، أفي هذا خروجٌ عن بشريّته؟!

ونسيتْ الباحثة العظيمة، ونسيَ مَنْ نقلتْ عنه، أنّنا نقول: إنّ الجنديّ في المعركة لا يخاف الموت، بل يُقدِمُ بشجاعةٍ لا نظير لها، من أجل أهدافٍ قد تكون دنيويّة أو سمعةً، فما بالك بمعلّم البشر، الّذي كان الصّحابة يحتمون به في المعارك إذا حَمِيَ الوطيس! إنّ فكرة خوف الرّسول من الموت بهذا التّجريد، تُظهره إنسانًا عايًّا لا نبيًّا… فيبدو كما لو كان ملكًا حاربَ في الدّنيا وعندما اقترب أجله داخَلَهُ الخوف من المصير المحتوم… إنّه أسمى وأعلى من أن يخاف الموت بهذا التّجريد الّذي تسوّقه الكاتبة والمستشرقون، وهي تعلم أنّه في الحديث الصّحيح خُيِّرَ بين الموت والحياة فاختار الموت؛ أي اللّحاق بالرّفيق الأعلى… فواعجبا!!!

 

وتُغالِطُ الكاتبة الحقائق أحيانًا، فتقول: "وقد وردت عبارة (سكرةُ الموت) في القرآن منسوبةً إلى الكفرة لا إلى المؤمنين: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيْدُ)". والفهم المغلوط فيما قالتْه يتبدّى في أنّ سكرة الموت هي عامّة للبشر جميعهم، مؤمنيهم وكافريهم، وليست خاصًّا بالكفّار دون سواهم، بل إنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عانى منها في مرض وفاته، حين قال: (إنّ للموتِ لسَكَرات).

 

وانظر إلى هذا التّلاعب في فهم النّصوص الّذي تستمرّ الكاتبة في إشاعته عبر صفحات كِتابها، فهي تقول: "والرّسول صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يدفع المرض عنه، أو يؤجّل حلول الموت به، فقد (كان ينفثُ على نفسه بالمعوّذات في المرض الّذي مات فيه) وقد لجأ إلى نوعٍ من الطّبّ السّحريّ فأمر نساءه بأن يُرِقْنَ عليه الماء (من سبع قِرَبٍ لم تُحْلَلْ أوكيتهنّ). ثمّ إنّه رَغِبَ في السِّواك وهو يُحتَضَر وكأنّه يريد أن يودّع الدّنيا".

 

قلتُ: ولا أظنّ أنّ مؤمنًا حقًّا، يحبّ الله ورسوله يُمكن أن يسمّي فعل الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو وَحْيٌ وهَدْيٌ ربّانيٌّ بـِ: (الطّبّ السّحريّ)!! وقلتُ: هل يودّع الإنسانُ الدّنيا بسِواكٍ إذا كان متعلّقًا بها؟!

 

والكاتبة تقول عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بأنّ مواقفه متناقضة، فهو ينهى عن البكاء، ثمّ يبكي على إبراهيم، وهو يتعلّق بالدّنيا بلا سببٍ واضح، انظر إليها وهي تفتري قائلةً: "ولهذا التّناقض وجهٌ آخر، فالحديثُ يُعلي الموت كما رأينا، ويصوّر الدّنيا دارَ باطلٍ، والآخرةَ دار حقٍّ. لكنّه قد يُصوّرُ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إنسانًا يتعلّق بالدّنيا، ويكره موتَه، ويحزَن لموت الآخرين، فقد حَزِنَ لموت إبراهيم، وهو يعلم أنّ له (أي إبراهيم) مُرضِعًا في الجنّة، وحزن لمقتل الصّحابة وهو الّذي عُرِضت عليه الجنّة ورأى للشّهداء منها المقام الأرفع".

 

قلتُ: لقد نأت عن الحقيقة كثيرًا، وسمحتْ لنفسها بالتّأويل الّذي لا يحتمله السّياق، ونسيتْ أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بشرٌ، يعتريه ما يعتري البشر من الحزن والفرح، وقد حَزِنَ على موت فلذة كبده، أفي هذا خروجٌ عن بشريّته؟! على العكس إنّها لتدلّ على مدى الرّحمة الّتي يمتلئ بها قلبه عليه السّلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.