شعار قسم مدونات

فلسفة التوحيد في الإسلام

blogs التشهد، التوحيد، صلاة

لو سألتَ بعض الناس اليومَ: ما معنى التوحيد؟ لأخبرك بأنّ التوحيد يعني أن تعتقد بأنّ هناك إلهًا واحدًا لا شريك له في خلقه ولا مثيل له في صفاته. ولو سألته عن معنى الإيمان بالله، فستجد الإجابة تدور حول الاعتقاد بوجود إله واحد خالق، لا تزيد عن ذلك. ولكنّك لو سألتَ الشخص نفسه: ما معنى البرّ بالوالدين؟ لسردَ عليك حقوق الوالدين كاملة. فإذا سألته: هل يُعتبر بارّا بوالديه من يعترف بأبوّة والده وأمومة والدته، ثم لا يُقيم شيئا من حقوقهما، بل يعقّهما؟ لأنكر عليك بشدّة، ولبيّن لك أنّ هذا لا يعرف البرّ من قريب أو بعيد!

 

تلك هي "أزمة" التوحيد والإيمان الأساسية في السياق المعاصر، إذ تم اختزاله عند بعض الناس في الجانب الاعتقادي، بل وحتى هذا الجانب الاعتقادي تم اختزاله في مساحة صغيرة من الاعتقاد تتمحور حول الإيمان بوجود خالق وأنّه واحد أحد، ومن ثم لم تعد للتوحيد والإيمان تلك الفاعلية التي فصّلها القرآن. القرآن الذي كان يعتبر هذا التوحيد والإيمان الاعتقادي "حجّة" على الخلق لا فضيلة لهم، فقد أخبرنا بأنّ بعض المشركين كانوا مؤمنين بالله بل ويقرّون بأنّه الخالق سبحانه، ولكنّه وصفهم مع ذلك بعدم الإيمان أو بالشرك.

 

قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ}. وقال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ}. فأخبرنا بذلك أنّ هذا التوحيد الاعتقادي والإيمان الاعتقادي هو في الواقع "حجّة" على الإنسان، أي أنّه إذا آمن بخالق واحد خلق كلّ شيء، فكيف يعبد غيره؟ ومن هنا انطلق المفهوم الرئيسي للتوحيد في القرآن، والذي سيجده من يتصفّح القرآن بارزًا ومحوريّا من أول المصحف إلى آخره.

 

يكون توحيد الاعتقاد من جنس الخبر، فأنت حين يخبرك الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن الله واحد أحد، وأنه خالق كل شيء، وأنّه سميع بصير، وأنه فعّال لما يريد؛ تُصدّق ذلك تصديقًا جازمًا

إنّه المفهوم الذي نجده في أول آية تخاطب الناس في المصحف: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. والذي يخبرنا الله في كتابه أنّه الغاية من خلق الجنّ والإنس: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. وأنّه الغاية من إرسال الرسل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}. والغاية من إنزال الكتب: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}. وشرط دخول الجنّة: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. وعليه قامت الخصومة مع الكافرين: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}. فكيف غفلنا عن كونه حقيقة التوحيد واقتصرنا في التعريف بالتوحيد على الجانب الاعتقادي الذي وإنْ كان مطلوبًا فإنّ المقصد والأساس هو توحيد العبادة؟

 

في هذه التدوينة سنتعرّف على حقيقة هذا التوحيد، أي توحيد العبادة، من خلال استعراض طبيعته في عدة مجالات: في الرسالات والقرآن واللغة والإنسان. وكيف أنّه لا ينبغي أن ينفكّ عن توحيد الاعتقاد.

 

في طبيعة الرسالات

لماذا أرسل الله الرُّسل؟ إنّ التفكّر في هذا السؤال وحده كاف لاستخراج نوعَي التوحيد. فالإجابة البدهية: أرسلهم ليصدّقهم الناس فيما أخبروا ويُطيعوهم فيما أمروا. فلم يأتِ الرسل بأخبار محضة فحسب حتى يكون الإيمان برسالاتهم مجرّد اعتقاد بصدق أخبارهم، بل جاؤوا بشرائع، ليكون الإيمان برسالاتهم متضمّنًا لتصديق الخبر وقبول الشرع. فإذا أخبر الرسول بأنّ الله واحد في ذاته لا مثيل له في صفاته ولا شريك له في خلقه، فهذا توحيد في الاعتقاد، أي مما ينبغي اعتقاده. وإذا أخبرهم بأنّ الله فرض عليهم شرائع فيها أمر ونهي، فقبول شرع الله في هذه الشرائع وصرف العبادات منها لله عز وجل وموالاة أهلها المؤمنين؛ هذا كلّه توحيد في العبادة.

وتصوّروا الآن لو أنّ رجلا جاء للرسول وقال له: أصدّقك ولا أطيعك! هل يُعتبر مؤمنا موحّدا؟ ولهذا قال الله في كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}. فالعلم بصحّة الرسالة وتصديق ما فيها حجّة على الإنسان؛ لأنّه يُفترض به ألا يخالف ما تيقّن من صحّته.

 

في طبيعة القرآن

ولو تصفّحنا كتاب الله لوجدنا هذه الطبيعة للتوحيد واضحة أيضًا، فالقرآن ليس أخبارًا فحسب، وإنما تضمّن شرائع من الأمر والنهي وغير ذلك. ولهذا قال سبحانه في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. فأمرهم بالإسلام مع الإيمان، ثم جعل الإيمان (بمعنى الإقرار والتصديق) مع الإسلام (بمعنى إفراد الله بالعبادة) هو "الإيمان" المنجي والذي علّق به الهداية، فقال بعدها مباشرة: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

 

وفي سورة آل عمران قال سبحانه: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. فأمرهم بالإسلام مع الإيمان، ثم جعل الإيمان (بمعنى الإقرار والتصديق) مع الإسلام (بمعنى إفراد الله بالعبادة) هو "الإسلام" المنجي والذي لا يقبل الله غيره، فقال بعدها مباشرة: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

 

آمن بعض المشركين بالله ربّا كما حكى القرآن عنهم ولم ينفعهم ذلك؛ لأنّهم أشركوا به في العبادة
آمن بعض المشركين بالله ربّا كما حكى القرآن عنهم ولم ينفعهم ذلك؛ لأنّهم أشركوا به في العبادة
 

ويعلّق الإمام محمد بن نصر المروزي (ت 294 هـ) على هذه الآية قائلا: "فدلّ بذلك أنّ الإيمان المقبول الذي وعد الله عليه الثواب هو الإسلام؛ لأنّه لو كان غير الإسلام لكان من دانَ اللهَ بالإيمان غير مقبول منه إياه لقوله {ومن يبتغِ غير الإسلام دينًا فلن يُقبَلَ منه}، فلمّا اجتمعت الأمة على أنّ من دان اللهَ بالإيمان فجائز أن يُقبل منه؛ ثبت بذلك أنّ الإيمان هو الإسلام وهو الدين المرتضى".

 

وقد أشارت الممارسة النبوية لهذين النوعين من التوحيد في القرآن، واللذين لا يُقبل أحدهما بغير الآخر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ في ركعتي الفجر {قل يا أيّها الكافرون} و{قل هو الله أحدٌ}" (صحيح مسلم، ورواه أبو داود). وعن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "كانَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي ركعتين قبل الفجر وكان يقولُ نعمَ السّورتان هما يقرأ بهما في ركعتي الفجرِ {قل هوَ اللَّهُ أحدٌ} و{قل يا أيُّها الكافرون}" (رواه ابن ماجة). فسورة "الإخلاص" تعبّر عن توحيد الاعتقاد، وسورة "الكافرون" تعبّر عن توحيد العبادة.

 

بل روي عن ابن عباس رضي الله عنه: "أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم كان يقرأ في ركعتي الفجر: في الأولى منهما: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الآية التي في البقرة. وفي الآخرة منهما: {آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]" (صحيح مسلم).

 
في بنية اللغة

حتى في هذه اللغة العربية التي نقرؤها ونتحدّث بها، سنجد هذه البنية للتوحيد. فالجملة العربية إمّا جملة خبرية أو جملة إنشائية، والجملة الخبرية يترتّب عليها إمّا تصديقٌ أو تكذيب. أما الجملة الإنشائية فيترتّب عليها قبولٌ أو رفض. ومن أمثلة الجمل الخبرية أن يقول طالب لأبيه: "لقد نجحتُ في الاختبار"، فيصدّق والده ذلك أو يكذّبه لأنّه خبر. ومن أمثلة الجمل الإنشائية أن يقول والد هذا الطالب له: "أغلقْ عليك غرفتك وادرسْ"! فيقبل ذلك أو يرفضه، ولا مجال هنا ليقول لوالده: لقد صدّقتك، ثم يجلس على التلفاز دون أن ينقاد لأمره!

 

إذا اعتقد المسلم أنّ الله حكيم خبير، وأنّه سبحانه هو الحَكَمُ وإليهِ الحُكم؛ فإنّ اعتقاده هذا لا ينفعه حتى يَقبل حُكم الله وشريعته
إذا اعتقد المسلم أنّ الله حكيم خبير، وأنّه سبحانه هو الحَكَمُ وإليهِ الحُكم؛ فإنّ اعتقاده هذا لا ينفعه حتى يَقبل حُكم الله وشريعته
 

وعلى هذا يكون توحيد الاعتقاد من جنس الخبر، فأنت حين يخبرك الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن الله واحد أحد، وأنه خالق كل شيء، وأنّه سميع بصير، وأنه فعّال لما يريد؛ تُصدّق ذلك تصديقًا جازمًا. وحين يأمرك الرسول صلّى الله عليه وسلّم بطاعة الله عز وجل؛ تقبل أمره ونهيه. وحين يأمرك الله في كتابه بنبذ الأولياء من دونه؛ تتّخذه سبحانه وليّا وتنبذ مَن دونه مِن الأولياء. وحين يأمرك بصرف الدعاء والصلاة له وحده؛ تصرفها له وحده. فهذه أوامر ونواهٍ تقبلها وتنقاد لها (وهو توحيد العبادة)، والأولى أخبار تصدّقها وتعتقد بها اعتقادا جازما (وهو توحيد الاعتقاد).

 

وحين تقرأ في القرآن: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}، وهي جملة خبرية، تعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا، ولكنّ هذا الاعتقاد ينبغي أن يظهر في الإرادة والعمل كعبادة، ولهذا قال سبحانه: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ}، وهي جملة إنشائية. فلا ينفع مثلا أن تعتقد بأنّ الله هو الرزّاق، ثم تطلب الرزق من شيخٍ مقبور لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعًا! ولا يصحّ أنْ يستبدّ بك الجزع فترتكب المخالفات وتأكل حقوق الناس تحت حجّة ابتغاء الرزق، تقول بلسانك "الرزق على الله"، وتعتقد ذلك بقلبك، ثم يقول اضطراب قلبك وسلوكك الجامح خلافَ ذلك!

 

في طبيعة الإنسان

ونحن لو نظرنا في طبيعة هذا الإنسان لوجدنا أنّ ما في قلبه ليس مجرّد اعتقادات؛ فأنت لا تصدّق الأشياء أو تكذّبها فحسب، بل في قلبك: قبولٌ لأشياء ورفضٌ لأخرى، وحبٌّ لأشياء وكراهيةٌ لأخرى، وإرادةٌ لأمور وانقباضٌ عن أخرى، وغير ذلك من المشاعر وأعمال القلوب. وقد يحدث أن يعتقد المرء شيئا ويصدّق به، ولكن تتّجه إرادته ومشاعره إلى خلافه. فقد يُحاور أحدهم شخصًا آخر في مسألة، فيقتنع في قرارة نفسه بصحّة ما يقوله محاوره، ولكنّه لكِبْرٍ في نفسه، ولكراهيته لذلك المحاور، وحتى لا يُقال إنّه أخطأ؛ يُكابر وينكر صحّة كلامه علنًا، ويظلّ يجادله ويرفض قبول كلامه! وهي حالة نعرفها ونعايشها ونجدها من بعض الناس مع الأسف.

 

وقد حصل في زمن النبوّة أنّ بعض أعدائه عرفوا صدق ما يقول وتيقّنوا من ذلك، فعلموا في قرارة نفوسهم بأنّه رسول مبعوث من الله، ولكنّهم رفضوا الإقرار له بالرسالة وطاعته لحسدٍ في نفوسهم، أو لأنّه سيأخذ عزّا وجاهًا وجدوا بأنّه سينافس به عشيرتهم، أو لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يُبعث في قومهم، وغير ذلك من الأسباب "النفسية" التي مبتدؤها ممّا يعتملُ في القلب من مشاعر وإرادات، لا ممّا ينعقد فيه من معارف واعتقادات.

 

لا يستقيم في قلب المسلم الموحّد وجود الاعتقاد بغير موجبه من الموافقة والموالاة والانقياد، وإلا فهو اعتقاد بارد غير فاعل ولا مؤثّر، ولن ينفعه يوم القيامة وحده؛ لأنّه لم يدفعه ليكون في هذه الدنيا عبدًا كما أراد الله له

إذا فهمنا ذلك، أدركنا بأنّ كل ما يتعلّق بتوحيد الاعتقاد في القرآن هو من جنس الاعتقاد والعلم والمعرفة والتصديق، وكل ما يتعلّق بتوحيد العبادة فهو من جنس القبول والإرادة والموالاة والانقياد. فإذا اعتقد المسلم أنّ الله سبحانه هو الوليّ كما قال سبحانه: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ}، فإنّ هذا الاعتقاد لا يُقبل حتى يتّخذه سبحانه وليّا بإرادته كما قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

 

وإذا اعتقد المسلم أنّ الله سبحانه {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}، فإنّ هذا الاعتقاد لا يُقبل حتى يقوم بما جاء في تمام الآية: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}. فقد آمن بعض المشركين بالله ربّا كما حكى القرآن عنهم ولم ينفعهم ذلك؛ لأنّهم أشركوا به في العبادة، قال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}. ولهذا لا يُقبل اعتقادك بالله ربّا حتى تُخلص له العبادة وحده كما قال: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.

 

وإذا اعتقد المسلم أنّ الله حكيم خبير، وأنّه سبحانه هو الحَكَمُ وإليهِ الحُكم كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}، أي "القضاء والأمر والنهي" كما يقول الإمام البغوي (ت 516 هـ)، وأنّ شريعته أحسن الشرائع، وأنّه سبحانه لا يحكم إلا بالعدل؛ فإنّ اعتقاده هذا لا ينفعه حتى يَقبل حُكم الله وشريعته، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا}. وقال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. ولهذا جعل الله سبحانه طاعته وقبول شرعه من صُلْب التوحيد، فقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}.

 

يقول الإمام الطبري (ت 310 هـ) في تفسيرها: "إنّ الله أمرني أن أعبده مُفردًا له الطاعة، دون كلّ ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد". ويقول الإمام الراغب الأصفهاني (ت 502 هـ) عن معنى الدين: "والدِّينُ يقال للطاعة والجزاء، واستعير للشريعة، والدِّينُ كالملّة، لكنّه يقال اعتبارا بالطاعة والانقياد للشريعة". ويقول الحكيم الترمذي (توفي قبل 295 هـ) عن معنى الدين: "فالدين هو الخضوع، يُقال: دانَ له أي خضع له، مشتقّ من الدون، وكل شيء دون شيء فهو له خاضع، فخلق الآدمي والكِبْر فيه وراثة من صلابة الأرض وقوّتها، واقتضاهم أن يدينوا له، أي يخضعوا له ويخشعوا لعظمته. فالخضوع والخشوع مبتدأ من القلبِ إلى الأركان، حتى يظهر على الأركان بالائتمار بأمره، والتناهي عن نهيه، والقبول لأحكامه، والانقياد له".

 

والخلاصة أنّه لا يستقيم في قلب المسلم الموحّد وجود الاعتقاد بغير موجبه من الموافقة والموالاة والانقياد، وإلا فهو اعتقاد بارد غير فاعل ولا مؤثّر، ولن ينفعه يوم القيامة وحده؛ لأنّه لم يدفعه ليكون في هذه الدنيا عبدًا كما أراد الله له. وكيف تستقيم له العبودية ولم يقم بشيءٍ من حقوقها؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.