شعار قسم مدونات

عن سياسة اللاعنف في الإسلام

blogs الفتوحات الإسلامية

هل طبيعة العلاقة الإنسانية الصراع أم التواد والتراحم؟ وهل هناك ما يسمى بفترة الطبيعة أم هي مجرد أوهام اختلقها فلاسفة الأنوار بغية التنظير لأفكارهم، سواء تلك التي كانت تدعو إلى الثورة والتحرر من نير المماليك الإنجليزية، أو تلك التي كانت تؤيدهم وتدعوهم للصمود وبالتالي الفتك بشعوبهم؟ هذه إشكالات أجاب عنها الفلاسفة وأطالوا فيها النفس، لكن بدون شك كان لها كبير الأثر على السياسة العالمية الآن، فبناء على ذلك لا يسعنا إلا أن نقول بأن الأنظمة السياسية العالمية اليوم لا تخلوا عن أحد أمرين، إما هي مستبدة وتتخذ من الفلاسفة الذين نظروا للعنف السياسي نهجا ومسلكا لطريقها، وإما هي ذات طبيعة تحررية تقف إلى جانب شعوبها وتحقق لهم العيش الرغيد-إذا سلمنا جدلا أنها موجودة فعلا-! أما في عالمنا العربي فالأنا المتعظمة في النفوس لا أعتقد أنها ستقبل بسياسة التشارك في الحكم!، لكن ألا يمكننا أن نجد بديلا عن كلا الأمرين في الإسلام؟

تُثار الكثير من الدعاوى حول الإسلام اليوم، ولعل أبرز ما يحاول أن ينال به المغرضون على الدين مبتغاهم هو انتقادهم لفترة التدوين في الإسلام، فالعلوم الإسلامية بشتى أنواعها- باستثناء القرآن- لم تُدون إلا في نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية، ومعلوم أن هذه الفترة كانت معروفة بالفتوحات الإسلامية، وبالتالي فالقيادة الإسلامية كانت بحاجة لمن يدعم نهجها الذي يقوم على سياسة "العنف" أو "القوة العسكرية" فلم تُدوِّن السنة النبوية حسب أصحاب هذا الرأي إلا ما كان يوافق نهج السلطة السياسية أو صيغت السنة حسب أراءهم، ولذلك نجد – حسب رأيهم – أن معظم كُتب السيَّر تُخصص حجما أكبر للغزاة، في إهمال كبير لسياسة الدعوة القائمة على "اللاعنف"، وخاصة إذا علمنا أن أول كتاب دُون في السيرة النبوية هو كتاب"المغازي".

قد نتفق أو نختلف مع أصحاب هذا الرأي، لكن الأمر المؤكد أن الدعوة الإسلامية قطعا ليس ذاك هو مصيرها، وليس هذا هو نهجها ولا الغاية من إتيانها، كما أن السياسة التي تقوم على الخضوع والخنوع ليس من هديها ولا مما أذنت فيه، فلا يعني أننا اليوم نعيش تحت هيمنة سياسة وضعف في شتى مناحي الحياة، أن نستسلم ونعود نلوي عنق الآيات والأحاديث، لنجعلها تتماشى مع ما يُملى علينا من مفاهيم جاهزة، غرضها إخضاع وإذلال الشعوب المستضعفة، فتسخر لهذا الأمر أجندة سياسية ودينية من أولئك المرتزقة الذين يقومون بالتبشير لدعوة الطاغوت الجديد.

ندرك أن للإسلام سياسة خاصة للمقاومة، بعيدا عما يدعوا إليه اليوم بعض الموالين للأنظمة المستبدة، من مواساة للمستضعفين، ودعوتهم للخضوع والخنوع وأن هذا قدر لا مفر منه

يمكننا أن نستعير مجازا مفهوم ألماهاتما غاندي لمقاومته، التي لم تكن بعنيفة ولا بخاضعة خانعة فهي من ذا وذاك كانت تتخذ مسلكا لها، لنعبر بذلك عن سياسة الإسلام المقاومة، فيمكننا القول بأنها تقوم على مبدأ "اللاعنف الغاندي" كما يفسره غاندي نفسه، فسياسة اللاعنف لا تعني بالضرورة الخضوع والخنوع، بل على العكس فهي تقوم على مبدأ الشجاعة والتحدي، كما أنها لا تقوم على المواجهة والصدام، بل على المواجهة اللاعنفية إن صح التعبير.

ومن يدرس السيرة النبوية يدرك ذلك جيدا، والسيرة لا تعني بالضرورة ما كتب في كتب السير، بل تعني المنهاج الذي مشى عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته الدعوية، وبالتالي فأول ما يمكن أن يبين هذا المنهاج هو القرآن الكريم، فالقرآن كان ينزل على المسلمين بمكة وهم مستضعفون ومع ذلك لم يأذن لهم بالقتال، حتى عندما طلب أحد الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم المواجهة لم يأذن له، وعندما كانت تُرتكب أعمال عنف كان يغضب صلى الله عليه وسلم، وحتى عندما هاجر للمدينة لم يبدأ بالمواجهة أو القتال، ولا يعني ذلك أنهم كانوا ضعافا، بل الذي جعل مائة صابرة تغلب مائتين، قادر على أن يجعل من واحد يغلب ألفين، لكنه بذلك كان يرسم معالم الطريق لأمة ستنتصر بها لقرون إن هي التزمت بها ومشت عليها.

معلوم أن الدعوة الإسلامية تنقسم إلى قسمين، القسم الأول هو الدعوة بدون قتال وكان غالبها بمكة وقليل منها بالمدينة، وهذه لا يمكننا أن نقول أنها كانت بدون مواجهة، بل كان الأنكى عليهم هي هذه، لأنهم لم يكونوا يتحملون رؤية أحب الناس إليهم وهم ينقادون إلى هذا الدين الجديد طواعية بدون إكراه، بل حتى إن أحدهم كان إذا هو أصاخ السمع لدين الله، لا يستطيع أن يمنع نفسه من الانصياع له، لأن نور هذا القرآن كان يحرق طغيان العناد والجحود بقلوبهم، وكان يجعلهم يدركون الحقيقة ناصعة وكأنها فلق الصبح، ولعل قصة الوليد بن المغيرة خير شهيد على هذا الأمر.

وأما الشق الثاني المتعلق بالدعوة التي قامت على المواجهة، فكذلك حتى في هذا الشق عندما نعود للأحاديث المتعلقة به والنصوص من القرآن، نجدها أنها كذلك دعوة لا عنفية بحسب ما سبق التبيين، وخير دليل أن الآية التي أذنت بالقتال، وهي قوله تعالى" أذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا" قد بينت أن سبب المواجهة هو الظلم وذلك لأن المشركين هم الذين اعتدوا ونكَّلوا بالمسلمين المستضعفين شر تنكيل، لكن هذا القتال لم يكن قتالا همجيا ولا قتالا عدوانيا انتقاميا، بقدر ما كان قتالا من أجل الدفاع وإعادة الاعتبار وخلق الموازنة، ولهذا ما إن انتصر المسلمون بفتح مكة حتى عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن كل المشركين ولم ينكل بهم، إلا أولئك الذين كانوا يعتبرون مجرمي الحرب، فكان جزاؤهم هو القتل.

وبذلك ندرك أن للإسلام سياسة خاصة للمقاومة، بعيدا عما يدعوا إليه اليوم بعض الموالين للأنظمة المستبدة، من مواساة للمستضعفين، ودعوتهم للخضوع والخنوع وأن هذا قدر لا مفر منه، وبعيدا كذلك عن تلك السياسة المتهورة، التي يقوم بها بعض الغافلين جهلا أو قصدا، من بث روح الحماس الزائد في نفوس المستضعفين والتغرير بهم وجعلهم يلقون بأنفسهم للتهلكة، والنتيجة أعتقد أن من يعرف واقعنا لن تخف عليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.