شعار قسم مدونات

رواية بطلها جسر!

جسر على نهر درينا

طبيعي جدا أن يكون لكل رواية أبطال من لحم ودم (أو من ورق إن تحرينا الدقة) يرسمون أبرز معالم عقدتها ويشكلون بتنوع مصائرهم تفرد حبكتها. لكن، هل يمكن لجسر من حجر أصم أن يكون البطل الأوحد والأبرز لرواية معينة؟

 

يرحل بنا كتاب الأسبوع إلى الأجواء البوسنية البلقانية، ويتعلق الأمر برواية "جسر على نهر درينا" للكاتب اليوغوسلافي (وبالضبط من صرب البوسنة) إيفو أندريتش أو Ivo Andrić، صدرت لأول مرة عام 1925 بعنوان أصلي هو Na Drini ćuprija وتولى ترجمتها إلى العربية المترجم السوري الراحل سامي الدروبي (المشهور بترجمته لأعمال خالدة من الأدب الروسي وعلى رأسها روائع دوستويفسكي) وقد صدرت طبعات جديدة من الرواية بترجمتها العربية عن المركز الثقافي العربي ابتداء من العام 2009.

 

الملاحظ في بلد بالغ الروعة مثل البوسنة والهرسك، أن الجسور والأنفاق حاضرة دوما في جغرافيته وأدبياته، فلا يمكنك أن تذكر سراييفو مثلا إلا وتذكر معها "نفق الحياة"

جسر على نهر درينا، أو جسر محمد باشا سوكولوفيتش، بناه العثمانيون أواخر القرن السادس عشر، للربط بين البوسنة و "بلاد الصرب" شرق البوسنة وبالضبط في مدينة فيشيغراد على نهر درينا، ليشهد الكثير والكثير من الأحداث التاريخية التي تعاقبت على المنطقة، بدأت بأوج قوة الإمبراطورية العثمانية، مرورا بضعفها وبداية انهيارها، وتسلم الإمبراطورية النمساوية لمقاليد الأمور، قبل الوصول إلى الحرب البوسنية الصربية (قد نسميها الحرب الأولى بخلاف الثانية المشهورة بين 1992 و 1996) عام 1914 مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، كل هذا والجسر شاهد على تعاقب الأجيال والقصص الإنسانية بين الحرب والسلم، ينصت لضحكات الأطفال وهمسات العشاق وخطط المتآمرين قبل إصابته المباشرة بنيران المدافع المتقاتلة عام 1914 (أعيد بناؤه فيما بعد ويشكل اليوم معلمة سياحية أساسية لزوار البوسنة)، لتشكل بذلك الرواية واحدة من أفضل الأعمال الروائية التي اعتمدت في حبكتها على ما يسمى ب"بطولة المكان" فالأجيال تتعاقب والجسر يبقى وحيدا راسخا وشاهدا على ما يفعله الإنسان.

 

يقول المترجم الراحل سامي الدروبي في مقدمة الكتاب: "أهذا الكتاب رواية؟ سمه إن شئت كذلك، لكنك لن تغفل عن أنه لون من الأدب الخاص، فيه من القصة والشعر والفلسفة والتاريخ أجمل ما يمكن أن يتغذى به أثر أدبي جديد وأصيل".

 

هذه الرواية هي الأولى في ما يمكن اعتبارها "الثلاثية البوسنية" التي بدأها الكاتب اليوغوسلافي إيفو أندريتش بجسر على نهر درينا، وأتبعها برواية "وقائع مدينة ترافنيك" أو Travnička hronika عام 1945، وهي تتناول ثورات هذه المدينة ضد العثمانيين (الكاتب ينحدر أصلا من هذه المدينة) (وهي مدينة تقع وسط البوسنة وكانت ذات أهمية استراتيجية كبرى في حرب البوسنة 1992-1995، ونظرا لتباين العرقيات التي تسكنها بين مسلمين وصرب وكروات فقد قسمت اتفاقية دايتون المحافظة بكاملها إلى شطرين، أحدهما يتبع الإئتلاف الكرواتي البوسني والآخر يخضع لسيطرة ما يسمى بجمهورية صربسكا) وختمها برواية الآنسة أو Gospođica عام 1945 أيضا، وهي على طريقة الأدب الكلاسيكي الأوروبي تتناول مسار سيدة بوسنية من سراييفو تتعرض لصدمة عائلية تحولها إلى إنسانة بخيلة جدا.

 

رواية جسر على نهر درينا (مواقع التواصل)
رواية جسر على نهر درينا (مواقع التواصل)

حصل الكاتب على جائزة نوبل للأدب عام 1961. من جهتي أنا، عرفت هذه الرواية أول مرة قبل سنوات، يومها كتبت مراجعة سريعة عن رواية "مخاوفي السبعة" للكاتب البوسني سلافدين أفيديتش، واشتكيت من قلة الأعمال الأدبية البوسنية المترجمة إلى اللغة العربية، فنصحني الكاتب والصديق الكويتي عبد الوهاب الحمادي بالاطلاع على هذه الرواية، وبالفعل خصصت وقتا لقراءتها. صحيح أنها بعيدة كل البعد عن الفترة الزمنية التي كنت أنشدها في مطالعاتي الإعدادية للاشتغال على مشروع روايتي ساعة الصفر 00:00 الصادرة لاحقا عن المركز الثقافي العربي أيضا، لكنها قدمت لي كنزا غنيا من المعلومات التاريخية والجغرافية عن هذا البلد الرائع، وشكلت إضافة قوية إلى ما أسميتها بيني وبين نفسي ب "السلسلة البلقانية" في برنامج مطالعاتي.

 

الملاحظ في بلد بالغ الروعة مثل البوسنة والهرسك، أن الجسور والأنفاق حاضرة دوما في جغرافيته وأدبياته، فلا يمكنك أن تذكر سراييفو مثلا إلا وتذكر معها "نفق الحياة" الرابط بين منطقتي دوبرينيا وبوتمير، والذي كسر به المحاصرون في العاصمة البوسنية طوق الميليشيات الصربية الصلب في حرب التسعينيات، وتعد قصة بنائه واحدة من أروع قصص الصمود والتضحية في الحرب، كما تذكرك مدينة جميلة كموستار بجسر ستاري موست أو الجسر القديم الذي يربط بين الجزء الشرقي والغربي من المدينة، وبناه أيضا العثمانيون في القرن السادس عشر (وهذا ما أحدث لي خلطا في المعلومات عندما سمعت برواية اليوم لأول مرة، قبل إلمامي إلى حد ما بجغرافية البلد، فقد اعتقدت في بداية الأمر أن جسر على نهر درينا تتحدث عن مدينة موستار وجسرها الأشهر) الجسر الذي بقي صامدا هو الآخر لعدة قرون قبل أن تدمره بشكل جزئي حوالي 60 قذيفة أطلقتها الميليشيات الكرواتية على الموقع يوم 8 نوفمبر من العام 1993 (وقد تحدثت عن ذلك بالتفصيل في تدوينة سابقة عبر مدونات الجزيرة).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.