شعار قسم مدونات

"جو شو" الساخر.. عندما يتعرّى الإعلام العربي!

blogs جو شو

اسمه يوسف حسين الشهير بجو، مقدم برنامج سياسي في قالبٍ كوميدي ساخر لا يحدّه سقف، كان يبث حلقاته على اليوتيوب قبل أن تحتضنَه قناة العربي من مقرها في لندن، كانت النواة الأولى لانطلاق البرنامج مقطعا لفيديو ساخر يدافع فيه جو عن الرئيس المعزول مرسي، وبعد أن حقق ما حققه من مشاهدات قياسية على منصات التواصل الاجتماعي، انكبَّ وفريقه على إعداد حلقاتٍ في شكل سلسلة تُبثُّ كل يومِ خميس، فانتشرت في العالم العربي انتشار النار في الهشيم خصوصا بعد انقلاب 3 يوليو في مصر، وكغيره من البرامج التي تضغط على نفس الجرح، تعرَّضَ بدوره لسخطٍ كبير من قبلِ المعارضين لمثل هذا النوع من الإعلام الذي يجعلُ من الأحداث الراهنة مادة دسمة، يُغلّفها بغلافٍ فكاهي ساخر ينفذ بسلاسةٍ إلى قلب المشاهد ويحوز إعجابه، وهذا ما يُحبذه الجمهور إلى أبعد الحدود.

ويمكن القول أن برنامج "جو شو" جاء ردّاً على برامج ساخرة كانت بدورها تنال من الرئيس مرسي بعد انتخابه، فالمواجهةُ ليست دائما ردّ العنفِ بعُنفٍ مشابه، بل قد تكون كذلك بردّ البسمة ببسمة أفضل منها وأصدق. ينتظر الآلاف من عشاق برنامج "جو شو" بفارغ الصبر بث حلقة الخميس من كل أسبوع والشوق يغمرهم، ما الجديد الذي سيأتي به؟ ما هي الجهة التي سيُصوّب إليها لدغات السخرية والتهكم؟ فتكون دائما كل حلقةٍ أمتع من سابقتها، وهذا ما جعل البرنامج ينتشرُ انتشاراً واسعاً على امتداد الوطن العربي.

يتجوّل يوسف حسين بين شطحات الإعلام العربي الغارق في مستنقعٍ من الكذب وبيع الوهم دون استحياء، الإعلام الذي يعيش في وادٍ والواقع في وادٍ آخر تماما

ولا أجد صراحة فيما يُقدمه يوسف حسين من عسيرٍ على الصنع، فما نشهده من المهازل الصارخة التي تكاد تفقأ عين المتتبّع ما يجعلنا نضيعُ فيها كما يضيعُ التائه بين مخارج الشوارع، خاصة وإن كانت نفسها هذه المهازل هي مُشَكّلة المادة الإعلامية الرئيسية ليوسف حسين، فالسلعة إذن مضمونة وبالتالي يبقى الإبداع متوقعاً، ولا شك أن الطريقة التي يتناول بها يوسف حسين موضوعاته فريدة من نوعها فيها الكثير من الإبداع والذكاء، فهو دائما ما يضع يده على كل حدثٍ آني رافضاً أن يمر علينا مرور الكرام، لينتشله من عمقِ التفاهة ويقدمه لنا في صورةٍ لطيفة يستسيغها ذوقنا.

استفتاء الكنكة، هكذا وصف يوسف حسين مهزلة الانتخابات المصرية المثيرة للجدل، وسخر من حملة "صبَّح على مصر بجنيه ومسّي عليها بجنيه بردو" فاعتبرها شكلاً فاضحاً من أشكال إفراغ جيوب المواطنين "الغلابة"، وعلّق بسخرية بالغة على زيارات الرئيس السيسي المتكررة إلى دول الخليج لاستجداء العطف والمال، وخطاباته الغريبة العجيبة، ويبقى أكثر ما يسخرُ منه بطبيعة الحال تقلّب مواقف المذيعين المطبّلين أكثر من تقلّب جوّ آذار بين الصبح والمساء، في نفاقٍ أقل ما يُقال عنه أنه رخيص يضرب مبادئ الإعلام في مقتل.

 

وأبدى اندهاشه بطريقة فنية رائعة من إصدار شهادة أمان للمصريين "بالعافية" على حدّ تعبير السيسي، لجمع الأموال من عَرَق الفقراء والتلويح بمعاقبتهم إن هم رفضوا الانصياع لقراراته المجنونة، كما ينتقد مراراً وبصورة تهكمية مثيرة للضحك المنافسة "الشرسة" في انتخابات الرئاسة المصرية التي اشتدَّ وطيسها بين الرئيس المُقبل عبد الفتاح السيسي ونظيره المرشح الافتراضي مجهول الاسم والمعالم، وكيف أن السلطات تزجُّ في السجن كل من تُسوّل له نفسه التفكير في ترشيح نفسه أمام الرئيس المحسوم في أمره مسبقا، ناهيك عن فضيحة اتفاقية استيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل، وقضية الدواجن البرازيلية مُنتهية الصلاحية، إذ تبين أن العسكر هو من كان وراء كل هذه الصفقات المشبوهة.

المشاهد العربي بدأ يُحبذ هذا النوع من الإعلام المُشخص لأمراض المجتمع، ربما ابتعاداً من قالب النمطية الذي طغى على الإعلام العربي
المشاهد العربي بدأ يُحبذ هذا النوع من الإعلام المُشخص لأمراض المجتمع، ربما ابتعاداً من قالب النمطية الذي طغى على الإعلام العربي
 

أما الإعلام السوري، فلا يقلُّ غضاضة من شقيقه المصري، فهما يشربان من كأس واحدة، يحاول جاهداً أن يَتستَّر على انتكاسات الرئيس المتكررة وهو يبيع سوريا قطعة قطعة، وبعد أن تبخر أملُ السوريين في انسحابه من كرسي الرئاسة بعد أن فاقت مجازره كل التصورات، إذا به ينسحب من عروبته ليُسلّم مفاتيح سوريا لمحتلٍّ جديد يُعربد فيها كيف يشاء، أما هو فحتى الاجتماعات التي تُعقد في دمشق لا يُستدعى لحضورها، ولم يُفوّت "جو شو" طبعا لقطة المطار وما ظهر فيها من ذلٍّ ومهانة لا نظير لهما لبشار الأسد وهم يعاملونه فوق أرضه كزائرٍ عابر من الدرجة الدنيا!

هكذا يتجوّل يوسف حسين بين شطحات الإعلام العربي الغارق في مستنقعٍ من الكذب وبيع الوهم دون استحياء، الإعلام الذي يعيش في وادٍ والواقع في وادٍ آخر تماما، يحاول إقامة سدٍّ من التضليل يفصل به الحق عن الباطل، ليأتي "جو شو" ويُعرّي للمشاهد كل شيء. لا يغرنكم صرخات الضحك المتعالي في مثل هذه البرامج الساخرة، لا شكَّ أن الإنسان عندما يصل إلى المرحلة التي يستهزئ فيها بواقعه المعاش، فهذا إن دلَّ على شيء إنما يدل على حجم الألم الدفين الذي يكابده صاحبه، فعندما ترتخي شفتا يوسف حسين بعد ضحكاته المقهورة يظهر الألم المتواري عن الأنظار رغم ما يبدو عليه من بشاشةٍ وحبور، إنه ألم الغيرة على الإنسان الذي تحوّل إلى كُرةٍ من اليأس ترتدُّ بين الأطراف السياسيين والانتهازيين، ولا يجد المسكين نفسه في كل هذا إلا وقد أصابه الدوار.

والحقيقة أن المشاهد العربي بدأ يُحبذ هذا النوع من الإعلام المُشخص لأمراض المجتمع، ربما ابتعاداً من قالب النمطية الذي طغى على الإعلام العربي مفضلا بذلك الانفتاح على أشكالٍ وروافد أخرى للمعلومة بطريقة مُغايرة ترسم الابتسامة على الوجه، وإن كان وقعها الحقيقي في النفوس لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.