شعار قسم مدونات

عن الإنسان بعد 15 آذار/2011

مدونات - سوريا

ثمة ألوان على الطاولة أمامي، بعض الريَش المبللة وكأس ماء يبعث الحياة للوحة إعلانية مقرر تسليمها في اليوم التالي. أجلس في غرفتي الضيقة إلا من أحلام أوسعت كل النوافذ الخجولة بداخلي، كنت أُتمم واجباتي أمامها، أرسم قليلاً وتأخذني السماء إليها مرات. طمحت في تلك الأيام أن أغدو كاتبة سيناريو وناقدة، خططت لهذا بحماس كاد يجعلني في المكان الذي أريد لولا عدم وجود هذين الفرعين في مدينتي طرابلس، عزّيت نفسي بأني قد أقنع والدي بالدراسة في بيروت. يتكرر المشهد، الألوان، الأحلام، الأذان الذي يفرض نفسه بغرفتي، أشيائي المبعثرة بإتقان، راديو صغير استجدي موجاته أن تهديني أغنية بدون تشويش، لم أستغنى عنه يوماً حتى فعلت ذلك طوعاً، انتهى وجوده إلى جانبي، وانتهى معه اليسير مني بسبب..
 
ضوضاء في المنزل، وثمة صمت. أنا على نفس الجلسة، تدخل مريم إليّ بين الساعة والأخرى تنبأني بخبر عاجل. كانت الأخبار تتوافد من درعا، ومظاهرات تخرج من حمص. كيف فعلوها؟! أسأل نفسي وأنا ألتقط أنفاسي على شبّان وشابّات مجهولة مصائرهم. بقيت يدي تغطي نصف وجهي مذ أن أُمطرت المظاهرات السلمية بالرصاص الحي. كانت بعض الوشوشات تنفي أي استمرار لمحاولات الحرية تلك، وبعضها تقول بسذاجة "الأسد عداده بالكثير شهر". الأسد، الذي كنا نخشى مخابراته حتى في المنازل الخالية، ومن ينجو من وشاية مخبر لدى النظام السوري الذي استقر في لبنان لـ 30 عاماً أو في معقله.. سوريا؟!
 
يصدح في المنزل أغنية، أصر والدي أن تكون على هذا الارتفاع طوال اليوم، غير آبها لإزعاج الجار بخلاف العادة، كنا من خلالها وكأننا نعلن انتماءنا للثورة …. يا حيف، سميح شقير. سمعناها حتى آلفتنا، شاركناها مع كل من أتى لزيارتنا، انتهى عصر أغنيات الراديو خاصتي، أرسم فقط على وقعها وحنجرة القاشوش حتى تبدلت معهما أحلامي، لم تعد تناديني السماء، ولا ألوان تغري ناظري أكثر من الأسود، الأخضر، الأبيض والأحمر مجتمعين في عَلَم. تأجلت خيالات تلك الفتاة الشاردة، كنت أقرأ كما لم يقرأ أحد، كنت أتغير مع مجريات الأحداث، أتابع التفاصيل بشغفِ حالم، أنتظر مشاهدة فيديو لا تتعدى مدته الدقائق في ساعتين لبطء الشبكة.
 

نموت مع توارد أخبار القصف، ونحيا مع أول صرخة من الملاجئ تدعونا إلى الصمود فـنكتم أفواهنا، ثم يستيقظ البعض على أن الثورة مستمرة، ومن قال بأنها ماتت! نحن فقط من مات حتى عن الدعاء

لم يعد صوتي في الأرجاء، احترفت الصمت منتظرة الآتي، كما أتقنته أيضاَ لأتلقى الآخرين على اختلافهم، لأستوعب مثلاً العلاقة الوطيدة بين الموالي والحذاء العسكري، لأفهم تمسك البعض بجملة "والله كنا عايشين وما أحلانا". المسألة ما كانت يوما إسقاط النظام بشخص الرئيس وحسب، الثورة قامت أولاً للكرامة، لتغيير منظومة سياسية، اقتصادية، اجتماعية، انمائية واقعة في قبضة حزب البعث برعاية آل الأسد من الأب إلى الابن، الراعيان الرسميان لعملية تشجير الخوف في عقول الناس على امتداد 40 عاماً، وكادت السنوات أن تتوالى مع عالِم الرياضيات الصغير لولا كابوس.. 15 آذار 2011.

  
كنت قبيل اندلاع الثورة على وعد من أختي أن نذهب في رحلة عائلية إلى سوريا بعد الامتحانات الأخيرة، كادت أن تكون مكافأة جميلة، لكن شاء القدر أن تتحتّم زيارتي إليها كسوريا المحررة وليس سوريا الأسد، فهل لي مكافأة أكبر من هذه؟! لكن طال الزمن يا الله ولم أنل مكافئتي بعد، لم يعد لدي سوى ريشة واحدة من مخلفات الرسم الذي صار ماض، ولا أبالغ إن قلت لم أعد أتقن ما تعلمته، ثمة أمور نسيتها بفعل السنين الثقيلة. اخترت بعد ذلك الصحافة لالتقائها مع حاضري ورسالة الله لي لا مع أحلامي في كتابة السيناريو.
 
سبع سنوات، جعلتني أكبر اربعة عشر عاماً بدلا منها، نحن من عاشر البدايات السلمية أين صرنا؟ يوم كنا نهتز لخمسة شهداء وعشرات الاعتقالات من المنازل ماذا عنَا؟ يقال فيها أزمة، حرب الدول العظمى، حرب أهلية وأقليات، حرب الجيوش.. أما سُميت ثورة؟ صرنا نأتي على ذكر مجازر الكيماوي ونقلّب المنشورات واحدا تلو الآخر، بين مئة شهيد هنا ومئتين هناك، بين مئات الحالات من الاختناق، وآلاف الجرحى، نقرأ منشورات بعضنا البعض، وبدل أن نضع "لايك" تَرَأف بحالنا "مارك" وأغدق علينا بتعبير " أحزنني" و"أغضبني".

 

صرنا كالحمقى بين أحزنني وأغضبني وأضحكني ثم أغضبني وعاد ليضحكني.. بأس الشعور الإلكتروني وبأس الأحزان. نموت مع توارد أخبار القصف، ونحيا مع أول صرخة من الملاجئ تدعونا إلى الصمود فـنكتم أفواهنا، ثم يستيقظ البعض على أن الثورة مستمرة، ومن قال بأنها ماتت! نحن فقط من مات حتى عن الدعاء بإخلاص لثورة لها الفضل في حرية كلمتنا، في توسع مداركنا عن الحياة، الموت والوطن، عن سبب وجودنا وتخاذل العالم. الثورة واجهتنا مع أنفسنا وأخلاقنا، وضعتنا على تماس مع إيماننا وصبرنا، جعلتنا نتساءل عن الله وحكمته في هذه القيامة، علمتنا أن نسأل، ألا نخاف لومة لائم. الثورة حررتنا من أنفسنا، أسقطت الأقنعة عمّن عرفناهم شركاء وطن وثورة حتى.

 

لست سورية ولكن مما علمتني إياه الثورة، أن دعمي للإنسان وحقوقه وحرياته لا يتطلب هوية انتماء
لست سورية ولكن مما علمتني إياه الثورة، أن دعمي للإنسان وحقوقه وحرياته لا يتطلب هوية انتماء
  

علمتنا الثورة، أن ليس كل من التحق بـركبها ثائر، قد يكون مجرد جائع يأكل ويطعن بـمن قضى في ساحة المعركة ليعيش وأبناءه بكرامة، تماماً كما فعل راعي الأغنام بـ " تشي غيفارا" حين وشى عن مخبأه لأعدائه؟! فـعندما سُئل الراعي لماذا وشيت برجل قضى حياته في الدفاع عنكم؟ أجاب " كانت حروبه مع الجنود تروع أغنامي ". حقاً، ثمة عشاق للبسطار وحكم العسكر، لا يبدو مريحاً للبعض أن يعيش بلا قيد وأقفال على فمه، ثمة من يخشى الحرية فعلاً، يخشى الحق، ثمة من لا يدرك أن قيمته الذاتية مسلوبة، وأن وجوده على هذه الأرض أوسع من مفهوم المأكل والمشرب… إنها لعنة الأسد. الحرية من أوسع المفاهيم التي بإمكانها أن تنهض بمجتمع إذا ما اقترنت بالعلم والمعرفة والتدبّر بهما، وقد تنحدر به لأسفل درك إذا ما لازمها الجهل والجهالة بما لهم وما عليهم.

 
مما علمتني إياه الثورة، أن دعمي للإنسان وحقوقه وحرياته لا يتطلب هوية انتماء، لست سورية ولم أذهب إليها يوماً.. لكن بلدي وبلدتي وأهلها عانوا ما عانوا من استبداد وظلم واعتقالات بات أصحابها في غياهب النسيان منذ عشرات السنين.. أكتب اليوم عربون شكر وامتنان لهذا التاريخ، لذكرى الثورة التي ما أبقت الإنسان كما كان قبل منتصف آذار، فـكم من واقع فُرض على عائلات وجدت نفسها تعانق البحار؟! ترى من ظن يوماً مستقبله في بلاد لم يسمع بـلهجتها قط؟! ومن خطر بباله يوماً أن يتخذ من الملاجئ مسكناً ليس آمناً أيضا؟! لكن من توقع يوماً أن الأسد لن يبقى للأبد؟! ومن ظن نفسه يوماً في الساحات يصرخ بأعلى صوته "ساقط ساقط يا بشار"؟! أكتب لثورة هذّبت النفوس كما عرّت الآلاف، ثورة عَلَمتنا أن طُلاب الحقيقة عليهم السعي لقراءة أرض المعركة والعودة للتاريخ ومعطيات الحاضر وألا ننتظر من قناة تلفزيونية أو راديو أو صحيفة أكثر من أعداد قتلى وجرحى. الثورة فكر، والفكر لا يُغتال إلا من إعلام مأجور يدّعي الحريات بـكفة ويَدُس السم بـكفة أخرى لـ حماية سلطانه.

 

سبع سنوات على الثورة، طالت؟! لنقل إنها نضجت، غّيرت وجوه، غَربلت. سبع سنوات ومع كل سنة نقترب نحو النهاية، نهاية من؟! كل يوم تنتهي حياة المئات وتُعطى الحياة للعشرات، ونسل آل ياسر في ازدياد. نعم، لم نعد على حالنا ولا شكل البلاد التي أمست حصصاً عربية وغربية ترعاها بعض كتائب مرتزقة. وبين من سيشهد على التاريخ ومن سيستشهد قبيل اللحظة المنتظرة، ثمة من ينهش حصته الأخيرة قبل فوات الأوان ليُقال.. بلاد كانت عامرة ببطش واستبداد انعطفت نحو طريق الحرية.. ها هي لهم.. فهل لو أعادتكم آلة الزمن ليوم 15 آذار ستجعلوه يوماً عادياً؟ أم ستحملون أرواحكم إلى مظاهرة بعيدة تهتف "يلا ارحل يا بشار"؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.