شعار قسم مدونات

القراءة.. تغذية فكرية تميز الإنسان

blogs قراءة

لا زلت مبتدئة تائهة وسط رفوف المكتبة التي أدخل من بابها الضيق ظهرا ولا أغادر أجنحتها إلا بتنبيه من العمال بعدما ينذرهم دجى الليل، خلال تلك الفترة، أتنقل بين كتابات نوال السعداوي وقصائد محمود درويش، أقرأ ما كتب في الصفحة الرابعة من أغلفة روايات غسان كنفاني، أغوص في رسائله لغادة وأقتنص الفرصة للتجسس على حياة مناضل أعدم ومات بشرف، آخذ من كل حجرة مبتغاي، أتنفس ما يبقيني على قيد الحياة التي تستحق أن تعاش، نعم أسافر بين التخصصات، أسابق الزمن وأؤنبه لقسوته، يطول حين نتمنى الخلاص، ويسرق منا تلك اللحظات الجميلة صعبة الإمساك، ولكن على كل حال، ربما يجب أن أؤنب نفسيتي لأنها المتحكم الأول والأخير.

 

أبحث في خبايا شغفي هذا وفي أسباب سكون المكتبات النسبي من آثار الحركة، وصدى صوت احتكاك الأوراق الذي ينتج غالبا عن تقليب الصفحات النهم، ثم أنكب حائرة في تساؤلي عن سبب خلوها من البشر. أتعجب لتلك الأغصان المتفرعة والورود، كيف لها أن تعيش هذا الفراغ وقد ملأ جوفها حسن الكلام وأبهاه؟ تضم الروايات حيوات متعددة ترقص في أرجائها شخصيات ينحتها الكاتب بكل دقة ومحبة، يحبك مبدعها الأحداث بشكل مقصود ليحيل إلى واقع مخفي قد لا تبوح به أصدق الخطابات الرسمية، يختزل بمهارة في أسطر معدودة ألم التاريخ الممتد، جراح الإنسان، ما أسعده يوما ما، وأسئلته الطفولية والبريئة.

 

وعلى سبيل المثال لا الحصر، أذكر رواية " ثلاثية غرناطة " لكاتبتها رضوى عاشور، أذكر وصفها الدقيق وكل ما أحيته في نفوس القراء من شوق لغرناطة زمان، وكيف استطاعت أن تبني قسمات وملامح عالم شاسع من خلال كلمات متلاحمة بشدة في كتاب حجمه أصغر بكثير من أن يعبر عن كل تلك المشاعر والحقائق المخفية بين الأحداث وأحاديث الشخصيات المتبادلة والنابعة عن قلم صادق ورشيق.

القراءة هي التغذية الفكرية التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية باعتبار أننا نعيش كلنا حياة بيولوجية عبر التغذية الحيوية، وهذا ما يضمن تطوره ليس للبقاء فحسب بل لبناء حضارة

وليست الرواية فقط هي ما يسبح في فلك مكتبة الحي، فلكتب الفكر، التاريخ، الفلسفة والدين ركنا خاصا بها وبقلوب القراء، فهي تعكس صورة الواقع بشكل أنيق، ويجد فيها القارئ الكثير عن نفسه المفقودة، عن دوافع شعوره، عن تاريخ بلدته وأصوله، عن حال المجتمع وحقيقة الإنسان، وكثر هم الكتاب من كرسوا حياتهم في خدمة الفكر عامة والعربي منه خاصة كمحمد عابد الجابري وعبد الله العروي …

 

وأمام هذا الزخم، من أذكى الحوارات، أجمل القصص القصيرة وغموض اللغة، لا يقف البعض مشدوها، لا ليس البعض بل الأغلب، ومنهم من لا يقف مطلقا، بحيث لا يقدر شيئا من هذه الكنوز الثمينة، والمشكل يعود إلى الاهتمام المفرط بما هو مادي على حساب باقي الجوانب الحياتية، فلا عجب إذا وجدت المطاعم ممتلئة عن آخرها، في حين يزيل بائع الكتب الغبار عن بضاعته باستمرار لقلة الأيادي التي تتفحصها والتي في نفس الوقت تتصفح  صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بإفراط تام، وأكثر ما يؤسف في الأمر هو طبيعة هذا الاستعمال، إذ لو استعملت هذه الوسائل بالشكل الصحيح على الأقل لكانت قد عوضت معدل القراءة المنخفض بالمجتمعات العربية الذي وصل إلى ربع صفحة للفرد سنويا .

وإيمانا مني بأهمية القراءة، فأنا أقول أن القراءة هي التغذية الفكرية التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية باعتبار أننا نعيش كلنا حياة بيولوجية عبر التغذية الحيوية، وهذا ما يضمن تطوره ليس للبقاء فحسب بل لبناء حضارة، فتراكم تجارب الآخرين تجعل القارئ يعيش الأزمان قبل ولادته ويغوص في أزمان لا تأتي إلا بعد مماته، فلنجعل القراءة منهجا لحياتنا، لندرك دواخلنا أولا ثم محيطنا في محاولة عيش أفضل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.