شعار قسم مدونات

ريم بنا.. رحلت أيقونة فلسطين والحرية

مدونات - ريم بنا

وأنا أنتظر خلفي في هذا الليل
في أوراق الأشجار وفي العمر وأحدق في هذا الليل
إلى آخر هذا الليل
دقات الساعة تقضم عمري ثانية ثانية
وتقصر أيضا عمر الليل
لم يبق من الليل ومني وقت نتصارع فيه وعليه
لكن الليل يعود الى ليلته وأنا أسقط في حفرة الظل هكذا كتب درويش

 

هكذا نحن أبناء سيدة الأرض ننبت عشبا وسنابل وورودا ونرجسا وزيتونا وتينا وليمونا ولوزا وبارود. هكذا نعيش فوق سيدة الأرض أو بجوارها أو حتى نكون في شتاتنا روحا وفكرا وانتصار ونفوز بموتنا لأننا ندرك أنها تحتضن أجسادنا حتى لو بعدنا عنها. لأن أرواحنا تسافر إليها وتهطل فوقها أجسادا من بهاء، سيدة الأرض أنجبتنا وفصلت لنا نعوشنا وقالت لا تموتوا إلا وأنتم ترتدون أثواب الكرامة المطرزة بخيوط الحرية.
 
وقالت لنا في أول درس من دروس النضال وأينما تكونوا وفي أي منفى ازرعوا بذرة الزيتون نضال والدحنون حبا وانتماء والنرجس رمز الحرية وعلمتنا كيف نرى بالبصيرة والبصر، وعلمتنا أصول التراث وفلسفة الفن وترانيم موسيقى الروح، وعلمتنا بصوفية مطلقة كيف نواري عشقنا في قبور من فضاء وأوصتنا أن لا نبكي الشهداء لأن للشهداء رائحة البرتقال ولهم وجوه من نور اللوز، وعلمتنا أن نزف موتانا المناضلين في حياء لعزف ناي مشتهى وفي عرس وطني لأنهم يعشقون الأرض والإنسان.
 
كل يوم تستقبل سيدة الأرض المباركة أبناء لها على صهوات النعوش المزخرفة بالحناء والآس والورود التي لم تمل أجسادهم ويزيد في العرس اشتعال الزغاريد، كل يوم تستقبل أمنا سيدة الأرض أبنائها شهيدا بل أكثر من شهيد وشهيدة من نساء وشيوخ وأطفال، وهاي اليوم تستقبل عرسا جنائزي لمناضلة عريقة في نضالها وإنسانيتها ومحبتها لوطنها وأرضها مناضلة وقفت في وجه الاحتلال الصهيوني منذ طفولتها حتى آخر أيامها، حيث شاركت بكل وسائل النضال ثقافة وأدبا وفنا وسياسة، وكان صوتها رصيدها الثوري يرتفع عاليا في وجه الظلم وشراسة الاحتلال دون أن تهاب لؤم وغضب المحتل أنها الفنانة والموسيقية والباحثة في هموم التراث المناضلة "ريم بنا".
 

ناضلت ريم بنا كي تضع بصمة روح التراث داخل سجلات التاريخ الفني، وكان أول عمل لها بعد التخرج عام 1985 ألبومها الأول والذي حمل اسم جفرا

ريم بنا من مواليد 1966 مدينة الناصرة ناصرة السيد المسيح وعروس الجليل تخرجت من المعهد العالي للموسيقى في موسكو. تميزت ريم بأسلوبها بالغناء الوطني والذي حاولت جاهدة من خلاله أن تقدم هذا التراث الفلسطيني إلى العالم أجمع. والدتها السيدة الشاعرة الفلسطينية رائدة الحركة النسائية في فلسطين السيدة زهيرة صباغ التي زرعت بابنتها حب الموسيقى والغناء والأدب. وكانت ريم مع حداثة سنها تحرص كل الحرص على مشاركتها في المهرجانات التي تحمل الطابع الوطني البحت والتي كانت تقام داخل مدينتها الناصرة بالإضافة إلى النشاطات المدرسية آنذاك والتي كانت تقام بداية داخل مدرستها بالمعمدانية والتي كانت قد تلقت تعليمها فيها ازداد ولع كنعانية العينين بالموسيقى مع تتابع السنين.
 
وبعد أن حصلت على شهادة الثانوية شدت رحالها إلى موسكو لتتابع دراسة الموسيقى بشكل أكاديمي وكان ذاك عام 1991، وبعد دراسة مدتها ست سنوات حصلت من المعهد على الشهادة الأكاديمية العليا في الموسيقى والغناء والتأليف، ثم تابعت بعدها مشوارها الإبداعي في تقديم الأغاني التراثية الفلسطينية بروح موسيقى العصر لذلك رأيناها تميزت بهذا اللون مما جعلها سيدة الغناء التراثي داخل فلسطين وخارجها. وكانت ريم بنا تحرص كل الحرص على أن تعبر عن أفكار أبناء شعبها المضطهد وعن أحلامه وآماله وتطلعاته وعن معاناته داخل الوطن وفي الشتات وفي اللجوء وتنقل كل ما يدور في خلد هذا الشعب الذي باعته أغلب الأنظمة العربية وللأسف تنقله بأمانة إلى كل أرجاء العالم.
   
وناضلت أيضا كي تضع بصمة روح التراث داخل سجلات التاريخ الفني، وكان أول عمل لها بعد التخرج عام 1985 ألبومها الأول والذي حمل اسم جفرا. وبعد عام من إنتاجها الألبوم الأول ظهر الألبوم الثاني بعنوان دموعك يا أمي. تابعت ريم بنا مسيرتها الفنية خلال فترة التسعينات من القرن الماضي مناضلة كي تعيد إحياء الأغنية الفلسطينية القديمة وأن توثقها كي لا تدخل طي الهجر والنسيان. ولكي تبقى داخل الذاكرة الفلسطينية الجمعية كانت الفنانة ريم تحرص كل الحرص على أن تغني أمام الأطفال أغاني التراث الفلسطيني داخل مهرجانات خاصة مما ساعد على انتشارها بين الأطفال بسرعة عجيبة. وفي عام 1993 أنجزت ألبومها الثالث وعنوانه الحلم، ثم أطلقت عام 1995 ألبوم قمر أبو ليلة. وفي 96 كان ألبومها مكاغاة. وبعد كل هذه الإنجازات عادت إلى خط الالتزام بالأغنية الوطنية فأطلقت صرخة ألبومها الوطني بامتياز وحدها بتبقى القدس وكان هذا عام 2001 فانتشرت شهرتها داخل البلدان الأوروبية بعد أن شاركت مع المغنية كاري بريمنس بألبوم مشترك باسم تهويدات محور الشر.   

 

ريم بنا (الجزيرة)
ريم بنا (الجزيرة)

 

وتابعت ريم بنا مسيرتها الفنية في تقديم الأغاني الوطنية، فكان ألبومها الرائع والذي أهدته إلى الأسرى الفلسطينيين والعرب داخل السجون الإسرائيلية وكان عنوانه "مرايا الروح". أما في عام 2006 أنتجت وأصدرت ألبوم بعنوان "لم تكن تلك حياتي" وأهدته إلى أحبتها أبناء الشعب اللبناني والفلسطيني، ثم أصدرت فيما بعد مواسم البنفسج ونوار نيسان. سافرت ريم حاملة معاناة أبناء شعبها إلى أغلب البلدان العربية تشرح لشعوبها مأساة أبناء شعبها الفلسطيني من خلال فنها الر اقي والملتزم. زارت سورية ولبنان ومصر وتونس. وفي عام 2010 كان إنتاج ألبوم "صرخة من القدس"، وبعدها في 2012 كان أوبريت بكرا.

 

أما حياة ريم بنا الذاتية فقد تزوجت من زميل لها كان يدرس معها في موسكو وهو ليونيد ألكسيانكو وهو أوكراني الجنسية حيث عملا معا في التأليف والتلحين وفي طيلة زواجهما والذي تكلل بثلاثة أطفال بيلسان وأورسالم وقمران، لكن لم يحظ هذا الزواج بالنجاح فانتهى بالانفصال وعاش أطفالها معها في مدينتهم الجميلة ناصرة المسيح وعروس الجليل.

  
ولن ننسى أن ريم بنا كانت من أكبر الناشطات والمناصرات لثورات الربيع العربي، وكانت تقف في شموخ مع هذه الشعوب التي ثارت على طغاتها وجلاديها المستبدين والمجرمين القتلة كانت تقف معهم بالرغم من آلامها التي كانت تفتت جسدها، فكانت تصرخ عاليا وتقول النظام الذي يقتل شعبه ما هو إلا كفة ميزان للاحتلال الصهيوني وهو نظام طاغ ومستبد ومجرم وسفاح، وكانت تدعو لكل الشعوب العربية بالنصر على الحكام الطغاة. كانت ريم تقول يوجد احتلالين في الحياة: الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين واحتلال السرطان للجسد وكلاهما عملة واحدة للسرطان. لكنها أغمضت عينيها الكنعانيتين في الرابع والعشرين من هذا الشهر 2018 حيث وري جسدها المناضل ثرى الناصرة مدينتها ومسقط رأسها تاركة خلفها حب فلسطين وشعب فلسطين وحب كل إنسان حر، لذلك وجدت ريم بنا أخيرا بحنان المسكن الحقيقي للروح طوبى لروحها المجد والخلود لكل شهداء الحرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.