شعار قسم مدونات

الزمن الموحش..

blogs الزمن الموحش

"وكان أن جاء زمان عصيب لم نحسب له حساباً فيما مضى، زمان تساوى فيه الحب والكراهية، الإبداع والغباء، الانتهاز والثورة، وفي ذلك الزمن الفاجع نمت الأعشاب الضارة، وراحت تمتص جذور الخصب والحب، زمان شبيه بحد المدينة، وملايين البشر كانوا يعبرون فوق ذلك الحد، وفي ذلك الزمن كنت أمضي نحوها وكانت منجاتي…".

 

كتابنا لهذا الأسبوع هو رواية "الزمن الموحش" للأديب والروائي السوري حيدر حيدر، صدرت طبعتها الأولى سنة 1973، ثم توالت طبعاتها، وصنفت فيما بعد كسابع أفضل رواية في قائمة أفضل 100 رواية عربية.  لكي تكتب عن العبث والوجود واللاوجود، عن الحب والعدم والميتافيزيقا، عن الشعر والموسيقى، عن السياسة والثورة والاضطهاد، عن كل شيء وعن لا شيء، يلزمك أن تعايش الزمن الموحش وتسلم نفسك بعدها وليمة لأعشاب البحر، يلزمك أن تكون حيدر حيدر.

 

"أنا غير قابل للتدجين رغم كل ما تعرضت له من منع وقمع ومضايقات أمنية وصرت أسمى (الكاتب الملعون) وحتى ضمن بيئتي الضيقة أنا محاصر ومتهم بالإلحاد والكفر. لذلك فأنا لا أدجن مثل الذئاب البرية لأنني أعتبر حريتي شيئا مقدسا ولا أتنازل عنها."

 

هذا ما قاله حيدر حيدر ذات يوم، ويمكن الاعتماد على هذا الكلام في تحليل توجهه الأدبي ومعه رواية "الزمن الموحش" موضوع حديثنا الآن.

 

فهم أبعاد الرواية المتشائمة بل والموغلة في التشاؤم يتطلب إلماما وإحاطة بالظرفية التاريخية التي كتبت فيها، ما يفسر كمية الوجع التي تكاد تصرخ بها كل صفحة من صفحات الرواية السوداوية

حرب يونيو 1967، يحاول البعض التخفيف من آثارها عندما يسمونها "نكسة"، فيما يصر آخرون على تسميتها باسمها الحقيقي "هزيمة" أو "الزلزال" الذي دمر الإنسان العربي ووضعه أمام حقيقته المتشظية والمزرية، عندما اطمأن العربي لوعود وخطابات قياداته، التي ادعت أنها قادرة على رمي الإسرائيليين في البحر، قبل أن يستفيق على تباكيها على الانهيار الفظيع، في ستة أيام فقط، أصيبت خلالها الكرامة العربية في مقتل.

 

تتسرب أحداث الرواية من ذاكرة الراوي في شوارع دمشق التي يظللها جبل قاسيون، لكنها لا تقدم لنا سردا متصلا متباكيا حول نكسة 1967، بل تصف لنا زمنا موحشا مريعا يمكن وصفه بأي شيء، إلا بكونه "عربيا". زمن فقد فيه المثقف دوره، بعدما حكم عليه بالرجولة المزيفة، والتحرر المزيف الملتبس، وضيق الحيلة وادعاء الفهم وسبر أغوار "العمق"، ما أعجزه عن صنع مستقبل أفضل، مستقبل يرى حيدر أنه هو السبيل الوحيد للتحرر من كل القيود التي كسرت العربي وجرت عليه الويلات في وطنه.

 

وطن لا يمكنه أن يتحرر (وفق رؤية حيدر حيدر) إلا بعد تحرر المرأة، المرأة التي يرى الكاتب أنها ليست سجينة تسلط الرجل، بقدر ما هي سجينة خوفها، وسجينة خوف الرجل على رجولته، وسجينة حاجتها إلى الزوج الذي تخفي وراءه ذاتها الحقيقيّة، وسجينة فكرة سطحية للحريّة يصرّ المثقفون على الدفاع عنها، رغم أنهم لم يتخلصوا هم أنفسهم من جينات الكبت الجنسي، فيما لم تتخلص النساء بعد من جينات الجواري.

 undefined

وطن جسده حيدر في الحبيبة الوحيدة في الرواية "منى"، التي غادرت دمشق بعدما كرهت ما قدمه لها "المثقف" اليساري العربي، وقررت أن الحياة الجديدة لا يوجد فيها نسل لهذا "المثقف". (هو بطبيعة الحال ربط معروف بين الوطن والعشيقة، وتجسيد واضح للأول في الثانية، لكنه كان ربطا جديدا غير مألوف في تلك الفترة التي كتب فيها حيدر روايته).

 

رواية "الزمن الموحش" ليست سهلة الهضم، كما هي أفكار حيدر حيدر التي لا يمكنك أن تتفق معها كلها، أضف إلى ذلك أن فهم أبعاد الرواية المتشائمة بل والموغلة في التشاؤم يتطلب أيضا إلماما وإحاطة بالظرفية التاريخية التي كتبت فيها، ما يفسر كمية الوجع التي تكاد تصرخ بها كل صفحة من صفحات الرواية السوداوية إلى أبعد الحدود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.