شعار قسم مدونات

كيف أثبتت الحرب السورية صحة نظرية داروين؟

مدونات - سوريا

كيفَ أثبتتِ الحربُ السّوريّةُ صحِّةَ نظريةِ داروين؟ تقولُ نظريَّةُ التّطور، والتي لن أناقشَ صحّتها من عدمِها؛ فهي صحيحةٌ بكلِّ الأدلِّة إن كان ذلك بلغةِ العلمِ والمنهجِ البحثيِّ كما هي صحيحةٌ بلغةِ المنطقِ والعقلِ، ودعكمْ من تلكَ المهاتراتِ التي مللناها، وشَبِعْنَا من ضجيجِها، والتي يحاولُ متبنوها بأيِّ ثمنٍ أنْ يثبِتَ خطأَ النظريّة، كيف؟ ولماذا؟ لا أعرفُ بالضّبط، ولكن؛ من المهمّ للبعضِ أنّ النظريّةَ مخطِئةٌ لأنّها تتعارضُ مع معتقداتِهم أو دياناتِهم.

 

تقولُ النّظريّةُ: إنّ الكائناتِ الحيّةَ تتأقلمُ مع المحيط الذي تعيش فيه وتتكيّفُ معه، وتظهرُ لديها صفاتٍ وميِّزاتٍ جديدةً، قد تكونُ أحياناً إيجابيّةً، وقد تكونُ سلبيّةً في الحينِ الآخر، عَلِمْنَا فيما بعدُ أنّ سببَ ظهورِ هذه الميّزاتِ هو الطّفرات الجينيّة، والتي تحدُثُ الآن وأنتَ تقرأُ هذا المقالَ مئات المرّات -إن لم يكنْ آلافَ المرّاتِ لعدَّةِ خلايا من خلاياك- فإذا ظهرتْ هذه الطّفراتُ قد يكونُ لها أثرٌ سلبيٌّ فتقتلُ صاحبَها أحياناً.
 
وكَمثَالٍ على هذا الأمرِ؛ تصوَّرْ أنّك قد أصبتَ خلالَ نشُوْئِكَ بطفرةٍ تُفقدك السّيطرةَ على الإنجابِ، فتصبحُ كائناً غيرَ قابلٍ لنقلِ معلوماتكِ الجينيّة لأولادِك، وستندثرُ جيناتُك بموتكِ، وعلى العكسِ؛ فقد تكونُ الطّفرةُ مكسباً للكائنِ الحيِّ فتساعدُ هذا الكائنَ على تحمّلِ أشياءَ لم يكنْ قادراً على تحمّلها في السابق، فمثلاً قد تظهرُ طفرةٌ أو مجموعةٌ من الطّفراتِ التي قد تسبِّبُ للكائن القدرةَ على التّنفسِ خارجَ الماء، أو على مقاومةِ البردِ القارصِ، وهكذا تظهرُ الطّفراتُ يوميّاً في حياتنا، وهكذا تظهرُ الصّفاتُ الجديدةُ، بعضُها يؤذينا فنموتُ قبلَ تَوْرِيْثِها لأبناْئِنا، وبعضُها يفيدُنا للبقاء في محيطنا، ويعطينا مقدرةً أكبرَ على التّكاثرِ ونقلِ هذه الصّفاتِ لأبناْئِنا، ومعَ تراكمِ الصّفاتِ الجديدةِ، نفتقدُ القدرةَ على التّزَاْوجِ مع أسلافنا، وتنْشَأُ الكائناتُ الجديدةُ، وهكذا نتطوَّر جميعُنا بِتَكيّفنا مع محيطنا.

 

المشكلةُ أننا كحيوانات بشريّة، نتميّز عن أبناء أعمامنا القردة أو غيرها بأننا الحيواناتُ الأكثرُ تأثّراً بالمعرفةِ التي تراكمتْ لدى آبائنا وأجدادنا، سبب ذلك أن الحيواناتِ الأخرى لا تتناقلُ المعرفةَ

فيا أبَا العلمِ التّطوريّ، نعم، قد لا تكون نظريّتك قادرةً على التّكهَّنَ أو التَّنَبُّؤَ بطفراتٍ جينيّة تسمحُ للكائنِ الحيِّ بالتقهقرِ حَضَاريّاً وإنسانياً، نعمْ لقد حدث ذلك في بلدي لكثير من أبناء جلدتي، فهناك يا داروين من أصبح يعيش على الماء والأُكسجين وبعض الطعام والكثير من الكراهية والحقد وافتقدوا كلّ حسٍ حضاريّ وإنساني. ولكن؛ كما يقولُ زياد الرحباني في مسرحيته "نزل السرور" وأقرَؤُها باللكنة نفسها والنبرة نفسها والصوت نفسه: "شو دخل هي بهي!" ستعرفُ سريعاً، ولكنِ اقرأْ هذه القصّةَ أولاً:

البارحةَ مثلاً، صديقُ طفولتي أسعد ، والذي تربينا سويّةً على المقعد نفسه لعدّة سنين في مدرستنا، تلك التي كانتْ تُدارُ من راهباتٍ علّمونا فيها الحبّ، والتّضحيةَ، والتّعاضدَ، مهما كان ديننا، أيهوديينَ كنّا أم مسلمين أم مسيحيين، صديقي أسعد القاطنُ في مناطقِ النّظامِ اليومَ قدْ طالبَ علانيّةً الحكومةَ السّوريّةَ بالقضاءِ على أهالي الغوطةِ رجالاً، ونساءً وأطفالاً، والمشكلةُ أنّك ستفترضُ أنّ طفراتِ الغباءِ إذا ظهرتْ فجأةً لدى إحدى الكائنات، وكان هذا الكائِنُ الحيُّ يعيشُ في بيْئَةٍ سليمةٍ، فمنَ المفروضِ ممّا تعلمناه في كتبنا الجامعيّة أن تختفيَ هذه الصفاتُ مع الزّمنِ، ومن المفروضِ أن تقودَ حامِلَها إلى الاندثارِ؛ فلن يستطيعَ حاملُ الطَّفرةِ نقلَ هذه الطّفرةِ السّيِّئَةِ إلى الأجيالِ القادمةِ، فكيفَ للغباءِ أن يسمحَ لكَ بالبقاءِ!؟

 

ولكن؛ هذا لم يعدْ صحيحاً في سوريّة، وهذا أيضاً لا يتعارضُ مع نظريّة التطور.. بل يُثبتُها.. فهذه الطّفرةُ بالذّاتِ التي ظهرتْ حديثاً لدى أسعد ، هي بنظري طفرةُ تراكمِ الكراهيّةِ، هناك مما أثَّرَ من محيطه على جيناته، وبالتّالي، زادتْ وتشعّبت صفةُ كراهيّة الآخر لديه، وهي الطفرة نفسها التي ستسمحُ لأسعد بالبقاءِ والتّسلحِ، والمحاربة بشراسة، وهي تماماً التي ستمنحه المزيدَ من القوّة في محيطِه الجديدِ وهي التي سينقلُها إلى أبنائه، وبدورهم سيكونون الأقوى، والأكثرَ سيطرةً ، و سيكونون الأكثر حقداً والأكثرُ إجراماً، فإمّا أن يموتَ أسعد أو يموتَ أعداؤه.. فالتّطور شيءٌ غبيٌّ، تماماً كما هو أسعد ، يحدثُ دائماً دون سبقِ إصرارٍ أو ترصّدٍ، كلّ ما يهمُّ هو البقاءُ…وهنا تماماً تكمن أهمية الكراهيّة التي ستبقي على أسعد حياً يُرزق.

 

ولكن، مهلاً، هدِّئ من روعك، قد تقولُ لي الغباء أو الكراهية أو العنف أو الحقد لا يمكنُ أن يكونوا حِكْراً على طرفٍ، لقد قلت للتو يا مهند إنّ التطور غبي، لا يفكر ولا يترصد، فهو يَحدُثُ نتيجةَ غريزةِ البقاءِ. نعم، كلامُك صحيحٌ، وبدوري لن أخالفكَ الرّأي، ففي الطّرفِ الثّاني هناكَ كائناتٌ تتقهقرُ حضارياً أيضاً، ولكنّها هي من تتكاثرُ وتتزايدُ سيطرةً على الآخرين، فأحدُ هذه الكائناتِ البَشريّة -والذي يدعي الإنسانية، وأنّه الضّحية، وأنّه المغلوب وأنّه الضّعيفُ- هذا الكائنُ كان صديقي رائد، يقولُ لي إنّ للضحايا الأطفالِ ثمناً!! فالضّحيّة الطّفلُ في الغوطة مثلاً يساوي بقيمتِه عشرةً من أمثالِه من أطفالِ دمشقَ، ومناطق النظام، هذا الكائنُ فقدَ القدرةَ على التّفكيرِ المنطقيّ، وفقدَ صوابه، حتى لو كانَ مازالَ محافظاً على الدّماغِ المُتقهقرِ في جمجمته، إلا أنّه تحوَّلَ إلى هلامٍ بلا فائدة، والغريب؟

  undefined

 

الغريبُ أنّ هذه الكائناتِ هي التي تزدادُ سيطرةً، وقوَّةً وانتشاراً في الطّرِفِ المُتطرِّفِ الآخر، وترى اليومَ أنّ معارضَ هذا الفكرِ مهدد بالقتلِ والموت والتعذيب.. تماماً كمعارضِ الفِكْرِ الآنفِ الذّكْرِ، حاولْ مثلاً أن تقولَ لرائدٍ أنه على خطأٍ، فالطفلُ طفلٌ، والبريء بريءٌ والإنسان إنسان، ستجد أنّ مصيرَك إمّا التخوينُ أو الهلاك، فمهما ملكتَ من عقلٍ فأنتَ المسالمُ أنت المهدد الآن، ورائدٌ هو الأقوى…وهو الذي ملأَ الحقدُ وملأتِ الكراهيّةُ كلّ عصبون من عصبوناته.

 

كباحث في البيولوجيا.. تأتيني أفكارٌ لمشاريعَ بحثيّةٍ في كلِّ يوم أنسى بعضها، وبعضُها يعلُق في مخيِّلتي، أتتني فكرةُ مشروعٍ بحثيٍّ البارحةَ تعتمدُ على قياسِ سماكةِ القشرةِ الدّماغيّة لدى هذه الكائنات، فمن علمِ الدِّماغ نعرفُ أن القدرةَ على التفكيرِ والذّكاءِ وغيرِها من القدراتِ البَشريّة تزدادُ مع سماكةِ هذه القِشرةِ.. فرضيَّتِي أنّني لن أجدَ هذه القشرةَ عند أسعد أو عند رائد.. وها قد استطاع الاثنانِ الاستمرارَ والعيشَ ونقلَ الكراهيّةِ والغباءِ و التقهقرِ في حضارتهم وإنسانيّتهم ليس فقط لأبنائِهم بل لمحيطهم وأهلهم وكلّ من شاركهم فكرهم، ولكنهم المنتصرون اليوم.

 

لم تخطئْ يا داروين.. فما زالَ الأكثرُ تكيفاً هو الأكثرَ قدرة على البقاء، وها قد وصلنا لدرجةِ أنَّ الأكثرَ حِقداً وكراهيّةً وأضفْ عليها الغباءَ طالما يسيرُ ذلك في خطّ التّكيّف، هو الباقي والباقي إلى الأبد، إلى الأبد.. حسناً، أين المشكلة إذاً؟ المشكلةُ أننا كحيوانات بشريّة، نتميّز عن أبناء أعمامنا القردة أو غيرها من الحيوانات بأننا الحيواناتُ الأكثرُ تأثّراً بالمعرفةِ التي تراكمتْ لدى آبائنا وأجدادنا، سبب ذلك أن الحيواناتِ الأخرى لا تتناقلُ المعرفةَ من جيلٍ لآخر كما نفعلُ نحن عبر الزمن.

 

وانظرْ إلى الكتبِ، والأفلام، والمواقعِ، وغيرها كلُّها تساهِمُ بتناقلِ المعرفةِ، وكلّها تساعدُ على تشذيبِ معرفتنا، وتماماً هي مشاعرنا، فنحنُ كبشر لا نختلقُ المشاعر فقط من التجربة.. نحن البشر نتناقلُ الكراهيّة، كما نتناقلُ الحبّ، والخوفَ، والفرح؛ لأنَّ آبائنا و آباْءَهم مِنْ قَبْلِهم نقلوا لنا هذه المفاهيم، ومن هو عدوّنا، ومن هو صديقنا، والمشكلةُ أنّ في سوريّة -لمدى خمسين عاماً مستقبلاً- ستظل هذه الكراهيّة راسخةً، وسنبقى ننوحُ على بلدٍ وننسى أنّ داروين كان على صوابٍ، وأننا كنا على خطأ، وأننا نتوارثُ هذا الخطأَ لمجرّد أنّ "رائد" و"أسعد " كانوا على خطأٍ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.