شعار قسم مدونات

المقاصد.. مدرسةٌ تحولت لمستشفى في ليلة واحدة!

blogs مستشفى المقاصد

حيث يقع جبل الزيتون، انتصبت هذه المدرسة المهجورة فوق ربوته المقابلة تماماً للمسجد الأقصى المبارك والمشرفة عليه بدقّة، اعتاد المارة على رؤيتها خالية مهمّشة غير مسكونةِ ولا مستثمرة، إلى أن أشرق يوم من أيام سنة عام 1967م حيث احتلت ما تسمى "إسرائيل" القدس الشرقية والمسجد الأقصى إثر الهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية آنذاك، وكعادته سعى الاحتلال الغاصب للسيطرة على كلّ ما يمكّنه من إطلاق رقابته على المنطقة وحواريها، فكانت المدرسة التي نتحدث عنها إحدى أهدافه، حيث عزم على تحويلها لمركز شرطة أو برج للرقابة على الحي -حي الطور- والأقصى.

لكن ما لبث أن وصل النبأ إلى أهالي الحي، وأدركوا عزم الاحتلال على تحويل المنطقة لقاعدة عسكرية يشرف من خلالها على المسجد الأقصى، فاجتمع الأعيان لتداول الموضوع والبحث في شأن مواجهة هذه الخطوة. اقترح أحدهم في نهاية الأمر فكرة تبدو للوهلة الأولى أنّها مستحيلة "تحويل هذه البقعة المهجورة إلى مستشفى وخلال يوم واحد!" لكن من يعرف العقلية المقدسية يدرك تماماً ألّا موضع للمستحيلات في قاموسهم، فحين يتطلب الأمر يستخدمون أسلوب "الخاوة المقدسية" مع المحتل لإفشال مخططاته ودحض ممارساته.

نحن بحاجة لإدراك الخطر الحقيقي المحدق بمسرى رسولنا الكريم، وعدم استسخاف أي خطوة يقوم بها الجانب المحتل تجاهه، ومن ثمّ إبصار درب نصرته وطريق تحريره والسير فيها

وفعلاً هذا ما حصل، فقد أيّد الجمع الفكرة، ومع حلول الليل ذهب كلٌّ إلى بيته وعاد ومعه شيءٌ من مستلزمات المستشفى، فهذا جاء بسرير وذاك بجهاز لقياس الضغط والسكري والآخر بملابس طبية وأدوية، وأحدهم تظاهر بأنّه طبيب وغيره بأنّه ممرض، ولم ينسوا بالطبع المرضى. ومع بداية اليوم التالي كان المكان قد أصبح مركزاً طبياً عامراً -وإن كان بأدوات بسيطة- فلما جاءت قوات الاحتلال لتضع يدها عليه صُدمت مما رأت فهذا ذاته الذي كان بالأمس فارغاً اليوم أضحى مستشفى! ثمّ ما كان منهم إلّا أن غادروا الحي جارين وراءهم أذيال الخيبة، عائدين بخفيّ حنين؛ لأنهم لن يتمكنوا من مصادرته على هذا الحال.

تحوّل المكان فيما بعد إلى مستشفى حقيقي والمعروف اليوم بـ"المقاصد" التابع لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، فعالج آلاف الجرحى وشيّع مئات الشهداء، وداوى آلاف الحالات المرضية من الداخل المحتل والضفة والقطاع. هذه القصّة التي سمعتها مرات عديدة ما انفكت تعزّز من يقيني بأنّ الشعب هو من يحدد المصير ويختاره، فلو يئس أهالي الحي وتركوا المدرسة فارغة لأخذها الاحتلال بكلّ بساطة وما توانى عن السيطرة عليها وتهويدها للحظة، لكن حصل عكس المتوقع لأنّ الإرادة المقدسية جعلت المستحيل ممكناً ولم تذر المكان لقمة سائغة في جوف المحتل.

ومما لا شك فيه أنّ ما ينطبق على هذه المدرسة ينطبق على غيرها من المواقع التي يسعى الصهاينة لتملّكها وتهويدها وعلى رأسها المسجد الأقصى، فمستوى التفاعل الشعبي مع قضاياه ومستوى المقاومة ضد المحتل ومستوى الرباط فيه يتناسب عكسياً مع محاولات تهويده والاقتحامات المستمرة له، فكلما ارتفعت وتيرة المقاومة وزاد عدد المرابطين على ثغور الأقصى قلّت نسبة الاقتحامات والتدنيس والتهويد والعكس صحيح.

ولا أدلّ على ذلك من أحداث هبّة الأسباط التي اندلعت عقب قيام الصهاينة بتركيب البوابات الإلكترونية على مداخل الأقصى إثر قيام ثلاثة شبّان من عائلة جبارين بقتل شرطيين إسرائيليين وجرح آخر في الرابع عشر من تموز عام 2017 قرب باب حطّة، فما كان من المقدسيين إلّا أن اعتصموا بالآلاف على أبواب الأقصى رافضين القرار حاملين شعار "الثبات الثبات حتى زوال البوابات" على مدار أسبوعين، فثبتوا وصمدوا وأعادوا أنظار العالم إلى الوجهة الصحيحة "القدس" وضجّت شوارع فلسطين والأردن والجزائر وتونس وتركيا وغيرها من الدول بالمظاهرات الداعمة والمؤدية للمقدسيين، فما كان من الجيش الذي "لا يقهر" إلا أن خنع أمام القرار المقدسي بإزالة البوابات والكاميرات وعودة الوضع في الأقصى لما كان عليه قبل 14/7.

undefined

أمر آخر يدلل على ما أردفته، إنّ مستوى الاقتحامات والاعتداءات على الأقصى في شهر رمضان الذي يمتلئ حينها بالمصلين والمعتكفين -نظراً لتمكّن أهالي الضفة من دخوله- تقلّ نسبياً إذا ما تمت مقارنتها بالأشهر الأخرى التي ينخفض فيها عدد المتواجدين في الأقصى، فلو مشى أحدكم في شوارع البلدة القديمة في الأيام الأخيرة من رمضان سيرى كيف يهرول المستوطنون فيها كأنّما يتخبطهم الشيطان من المسّ خوفاً من هذا العدد، بينما يسرحون ويمرحون في الأيام العادية كما لو كان الأقصى مطوّبٌ باسمهم.

خلاصة الأمر، لسنا بحاجة لنقاش مفاده "هل سينتصر الأقصى أم لا؟" أو "من له الحق في الأقصى؟" فهذه أمور مسلمة لا لُبس فيها ولا شكّ، لكنّنا بحاجة لإدراك الخطر الحقيقي المحدق بمسرى رسولنا الكريم، وعدم استسخاف أي خطوة يقوم بها الجانب المحتل تجاهه، ومن ثمّ إبصار درب نصرته وطريق تحريره والسير فيها، فالأقصى منتصرٌ لا محالة وعدٌ من الله لا من البشر، بينما نحن الذين في خطر فإن لم نكن على قدر من المسؤولية ولم نستحق لقب "الفاتحين المحررين" سيستبدلنا الله بقومٍ أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين لا يخافون فيه لومة لائم، فاختر أحد أمرين: يستخدمك الله أو يستبدلك؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.