شعار قسم مدونات

رِشوة بصرية

مدونات - انتخابات السيسي

بفعل الضجر، والخوف من الخسارة، والبحث عن فوز زائف، كنا نفعلها أيام الصيف الطويلة.. يجلس كلّ منا في زاوية، ويقسم ورق اللعب بينه وبينه نفسه، يرمي الورقة، ثم ينتقل إلى الجانب الآخر ليفتح الورق ويرمي ورقة أصغر منها، فيعود إلى مكانه ليأكلها بالورقة الأكبر، ثم يسجّل في نهاية الجولة رصيداً نقطيا هائلاً بعد أن فاز على نفسه.. لم نكن نعرف أن ما نقوم به من عبث طفولي وسذاجة متناهية، هي نفسها لعبة الزعماء العرب بما يسمى "الانتخابات الرئاسية"..

 

كل ما في المشهد العربي انقلب إلى كوميديا حقيقية غلب كل المسرحيات الضاحكة وبرامج الترفيه وألعاب الخفّة، بعض الأحداث الأخيرة جرت بقصد وبعضها الآخر جاء في سياق "الاستهبال" والديكتاتورية البلهاء.. بعض الأمثلة على هذه الكوميديا الغارقة في "السّخام".. أن يعلن "صوريا" عن انتخابات رئاسية في أكبر بلد عربي من حيث السكان وأقدمها حضارة وتاريخاً ونضالاً.. لكن في نفس الوقت كل من يفكّر أن يترشّح وينافس الرئيس الحالي، يُعتقل أو يوضع تحت الإقامة الجبرية أو يتّهم بقضايا مالية أو حتى يقذف بقضايا مخلّة بالشرف.. طيلة فترة الترشح وسماء القاهرة تشهد تساقطاً غزيراً للراغبين في قيادة مصر، ظل هذا "الحَجْر الرئاسي" حتى شارف موعد الترشّح على الانتهاء -وحتى تكتمل لعبة الورق- طلبوا من مرشح -أحدٌ لا يحفظ اسمه حتى اللحظة- بمنافسة الرئيس الذي وجّه كل الماكنة الإعلامية والإعلانية و العسكرية والمخابراتية في مناصرته في مواجهة نفسه، ومع ذلك كان قلقاً من النتيجة!!..
 

من مشاهد كوميديا الدكتاتورية البلهاء، في كل دول العالم يقف المرشح المنافس أو زعيم الحزب الخاسر، بشكر الجماهير التي صوّتت له، ثم يتلو الإقرار بهزيمته بتأثر وخيبة واضحة، إلا في الوطن العربي

في "قفشة" من "قفشات" كوميديا الدكتاتورية البلهاء أيضاَ، لم تجد سفارات مصر في بعض دول الخارج صناديق اقتراع بحجم كبير، فاستعاضوا عنها ببراميل قمامة بلاستيكية وجعلوا لها فتحة في الغطاء للتصويت، ربما كانت نبوءة غير مقصودة لتبدو أصدق تعبير عمّا سيجري من ديمقراطية لا تعدو أن تكون "كناسة" الوقت وفضلات التاريخ!
 
فصل آخر من مشاهد كوميديا الدكتاتورية البلهاء، خلال ساعات الاقتراع سُئل منافس السيسي عن توقعّاته لنتائج الانتخابات فقال: أنا متفائل بفوز الرئيس عبد الفتاح السيسي!! تخيّلوا؟؟.. أتمنى ألا تكون قنوات فضائية غربية من بين ناقلي هذه الإجابة أو من مترجميها كي لا تمتلئ الشاشات برذاذ "البصاق" وكلمات الازدراء بحق وطننا الممتد من الماء إلى الماء، بعد ان تفوّقنا على سجايا القطيع بطاعتنا وخوفنا وخنوعنا..

 

كل ما جرى وما يجري، لم يكفِ "الريّس" لإيقاف "مسخرة" التنافس، وابتذال الديمقراطية واهانتها أسوا اهانة، فقد قررت لجان الانتخابات بتمديد ساعات الاقتراع نتيجة الإقبال الشديد ساعات أخرى مما يضمن العدالة بين المرّشحين!!.. في الواقع هي تمديد للفضيحة السياسية حتى تصل لكل من كان مشغولاً في عمله أو ملهياً في شؤون بلده، أن يرى الفضيحة ولو كانت في ساعاتها الأخيرة..

  

من مشاهد كوميديا الدكتاتورية البلهاء، في كل دول العالم يقف المرشح المنافس أو زعيم الحزب الخاسر، بشكر الجماهير التي صوّتت له، ثم يتلو الإقرار بهزيمته بتأثر وخيبة واضحة، إلا في الوطن العربي "يُحرم" المرشح المنافس حتى من إلقاء كلمته للجماهير، ويحرم من الإطلالة أو الحديث عن الانتخابات لأن دوره انتهى من المشهد تماماً فور اصطفاف التسعات المئوية 99%، 92%، 90% لا فرق.. أما بالنسبة لمنافس "عبد الفتاح السيسي" السيد موسى موسى أنا متأكد أنه غاب عن المشهد فور إعلان النتائج لا غضباً ولا حزنا ولا خجلاً من نفسه، على العكس فقد كان "يوزّع شربات" بنجاح القائد الذي طالما تمنى له الفوز من قلبه.

   undefined

 

كل ما سبق، من إقصاء منافسين، وتسخير الدولة بأمنها وإعلامها لصالح المرشح الأوحد، واستخدام براميل القمامة كصناديق اقتراع، وتمنى المنافس فوز منافسه "بقمة الإيثار" على النفس، وتمديد ساعات الاقتراع للمرشّح الواحد، وجعل المنافس يوزع شربات خصمه بنفسه، كل هذا استطيع أن أجد له ما يسوّغه تحت عباءة الهبل الديمقراطي العربي، لكن لم أفهم بعد المغزى من استحداث عرف جديد في مجريات الانتخابات الرئاسية وهي الرقص أمام اللجان!!.. ما المقصود من الرقص المتواصل أمام اللجان الانتخابية، ووضع الأراجيل والحشيش والفطير المشلتت أمام الوفود الأجنبية لمراقبة الانتخابات الرئاسية.. هل هي "رشوة بصرية" مثلاً؟؟ أم رسالة سياسية مبطّنة.. أن من جئنا لانتخابه اليوم سيرقص لكم مثلنا وأكثر حتى يرضيكم ويبسطكم، فقط أبقوه في مكانه دمية من لحم تحركوه كيفما شئتم وأنّى شئتم ولكم ما تريدون!..
 
"الرقص" رشوة بصرية صغرى.. لرشوة بصرية كبرى ألا تقتربوا من مركب النيل وهو يغرق شيئاً فشيئاً لا ترموا الحبال ولا أطواق النجاة لركّابه.. اتركوه يرقد في القاع.. فثمة ترتيب آخر للدنيا وأمّها..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.