شعار قسم مدونات

الطفولة موطن الإبداع

blogs الطفولة

في حوار مطول مع الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز أجري عام 1988، اعتبر هذا الأخير أن الطفولة لا تمثل نقطة مرجعية بالنسبة له، ولا يمكن الارتكان عليها لخلق عمل إبداعي، ويقول بصريح العبارة: "إن نشاط الكتابة لا علاقة له بالعمل الفردي" ثم يضيف: "إن الأدب والكتابة مرتبطان بعمق الحياة" بل "إن الحياة أكثر مما هو شخصي" انطلاقا من هذا الكلام يفصل دولوز بين فعل الكتابة الذي ينصب حول موضوع معين، والذات الفردية، والأنكى من ذلك يقول أن الأدب والكتابة مرتبطان بعمق الحياة، وهذه الأخيرة تسمو على كل ما هو فردي وشخصي، بيد أن السؤال الذي يمكن طرحه: هل يمكن أن نتحدث عن عمق الحياة بمنأى عن الفرد؟ هل نشعر بالحياة ونحن خارج الذات؟ إذا لم تكن الطفولة بوصلتنا ونقطة ارتكازنا، فما هي نقطة ارتكازنا؟

 

يجيب دولوز أن الإنسان صيرورة متغيرة قوامها الترحل من مكان إلى الآخر، وهذا هو عمق الحياة، لذلك لا يجب أن نربط الحياة بشأن خاص وصغير كالطفولة، ولكن ألهذا الحد نعدم الطفولة؟ ألهذا الحد نبيد الطفولة؟ إن دولوز يربط كل شيء بالصيرورة والتغيير، وبالتالي في نظره الطفولة انحلت وذهبت بلا رجعة، بينما كل ما يتعلق بالعالم هو صيرورة، بما فيها الكتابة، إننا نكتب من أجل هذه الحياة السارية في أعماقنا، هكذا يرى دولوز، لكن كل كاتب يكتب عن حياته الشخصية، هو سيء الحظ، وجدير بالرثاء، بمعنى أن دولوز يرفض كل كتابة أرشيفية ذات بعد ذاتي، إنها تمنع المرء من الرؤية وتسقطه إلى الوراء!

 

ارتباط طفولتي بالوادي، جعلتني أفهم في الحاضر أن الأحلام لا حدود لها، وكما استطاع الوادي أن يشيد أفقه نحو الحلم الأكبر الذي هو البحر، فإنني كإنسان صيرورة مترحلة لا تتوقف أحلامها

ومن ثمة على الكاتب أن يستبعد الحديث عن الطفولة، لأنها بلا شأن أو فائدة، أما من وجهة نظري، فإني لا أتفق مع دولوز، أسأل هذا السؤال: أي شأن للحياة كصيرورة في غياب الطفولة باعتبارها نقطة ارتكاز يرتكز عليها المرء وهو ينحو في مسار الحياة؟ وإذا كان دولوز يرفض الحديث عن الطفولة، فعلى أية نقطة يمكن للمرء أن يرتكز؟ يجيب دولوز: الصيرورة! الجواب ليس مقنعا بالنسبة لي، فأنا أرى أن تقييم الإنجازات والأفعال مرتبط بالعودة إلى الطفولة دون المكوث فيها، لأنه لا يمكن للمرء أن يمكث في الطفولة، لأنها ذهبت بلا عودة، ولن يكون رجعيا ولا ماضويا، لأن الطفولة لا تعدو نقطة الانطلاق التي لن نفهمها كما كانت، بل سنفهمها على ضوء ما وصلنا إليه في مسار الحياة، فالماضي لا يستعاد إلا على ضوء الحاضر، لكن دولوز يعتبر من السهل الرجوع إلى الماضي، إلا أن هذا الأخير يبقى ماضيا ولن يستعاد إلا على ضوء تجارب الحياة في الحاضر، بيد أن ما لم يفهمه دولوز أن عمق الحياة لا يكمن فقط في التوجه رأسا إلى المستقبل، بل إن عمق الحياة هو الترحل في كل الاتجاهات، مع الاعتماد على نقطة ارتكاز، كيف نفسر رجوعه إلى دراسة ليبنز وهيوم؟ أليس ذلك رجوعا إلى الماضي؟

 

صحيح أنه ليس الماضي الذاتي، ولكن هل يمكن الفصل بشكل مطلق بين الذات والموضوع؟ ذلك مستبعد، لأن الذات منغمسة في الموضوع انغماسا كليا، لذلك من الصعب أن نفصل بين ذات دولوز وقناعاتها وأفكار هيوم في المتون والكتب التي ألفها دولوز عن دفيد هيوم، ومن ثمة فالذات حاضرة ومبثوثة حتى لو عملنا على قمعها وإبادتها، بما فيها الذات الطفولية، وأحلامها ومتمنياتها، إن الطفولة خزان لا ينضب من التجارب، وكلما رجعنا إليها نشعر بعمق بالحياة لا تفاهتها.

 

إن ارتباط طفولتي بالوادي، جعلتني أفهم في الحاضر أن الأحلام لا حدود لها، وكما استطاع الوادي أن يشيد أفقه نحو الحلم الأكبر الذي هو البحر، فإنني كإنسان صيرورة مترحلة لا تتوقف أحلامها، ولئن كان النهر مسارا، فإني كذات أمثل صيرورة تنحو في كل الاتجاهات. وبالتالي لم تكن الطفولة عائقا لي، بل كانت دافعا قويا للاستمرار، وكلما رجعت بالقرب من النهر، أنهل الطاقة لكي أستمر، لا أبكي بكاء الأطلال وأقول إن الطفولة هي كل شيء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.