ولأن أوراق المؤتمرات نادرا ما يقرؤها الناس، فكان من نشر الفائدة أن أجعلها في مقالات ، وقد بدأتها بمقال سابق هنا على مدونات الجزيرة عن طريقة الغزالي ومنهجه في التفكير والحكم على الرجال، ثم بدأنا مع رأيه في الشيخ محمد بن عبد الوهاب، واليوم نرى رأيه في أحمد عرابي، ثم نواصل إن شاء الله تعالى رأيه في آخرين، ثم نختم بما يؤخذ على منهج الغزالي وأحكامه. ففي هذه المقالات نجري على المنهج الوصفي الذي يسرد رأي الغزالي في هؤلاء بلا تدخل ولا تعقيب، وبالتالي بلا تأييد أو مخالفة أيضا. ولا يعني هذا بالضرورة التأييد لرأي الشيخ الغزالي وأحكامه. وفي الواقع نرى أن المقال الأول هو المفتاح الذي يُفهم منه منهج الغزالي وطريقته في الحكم على الرجال.
حيتك من نفسي عواطف مخلصٍ .. لا مأرب يلهيه شأن الفاجر
حيتك نفسي بل تحية أمة .. تحبوك تمجيد الجريء الماهر
إن فاتك النصر الجميل فإنها .. كبوات جد في طريق واعر
إن فاتك النجح العزيز فإننا .. نسعى نحطم رغم جدّ عاثر
في ثورة كبرى سنسعرها لظًى .. يفنى أتون لهيبها المتطاير
قدِّست مهزوما تعفِّر في الثرى .. قدست مقهورا كسير الناظر
لقد كانت "تصرفات إسماعيل وابنه، وأمثالهما من حكام الشرق الإسلامي تدور داخل الحدود التي يرسمها الاستعمار الأجنبي" ، فمن ها هنا "شعرت الصليبية بأن الزمام يفلت منها إذا لم تسارع إلى العمل. وتحركت إنجلترا تقف إلى جانب الخديوي ضد الشعب المطالب بحقوقه الدستورية. والمضحك المبكي أن الإنجليز والفرنسيين، وأمثالهم يحملون لنا- معشر المسلمين- حريات معينة، الحرية الشخصية التي تبيح لصاحبها دون قيد أن يتصرف كيف يشاء، يزني، يسكر، يكفر. أي حرية نبذ الإسلام واطراح تعاليمه وتعدى حدوده!! أما الحريات السياسية والاجتماعية التي قام أحمد عرابي بترسيخها في وادينا هذا.. فإن الإنجليز لا يطيبون نفسا بحصولنا عليها، وهم يعلنون علينا الحرب كي نحرم منها".
لم يكن صعبا اصطناع ذريعة للاحتلال، فإن "حمارا (بتشديد الميم) مالطيا أحدث بعض الشغب، وناله بعض الأدب كان السبب المباشر لضرب الإسكندرية بقذائف الأسطول |
"ومن هنا نلمح سفيرهم إلى جانب الخديوى توفيق يشد أزره كي يرفض مطالب الشعب، ويشترك معه في مجادلة القائد الباسل الذي ضاق ذرعا بالاستبداد والجور، وذلك في ساحة عابدين، والمرء يشعر بالعجب لمسلك هذا الإنجليزي المتطفل السمج!! ترى لو أن السفير الإنجليزي في باريس انضم إلى جانب الملك لويس ضد رجال الثورة وحاول إقناعهم بالحسنى أو بالشدة أن يتراجعوا في مطالبهم وأن يدعوا هذه الشعارات التي جاءوا بها أكان يُتْرَك حيا؟ كلا، كان سيقتل. ويذهب دمه هدرا، ما يجرؤ أحد على ذكره.. وكان الفرنسيون يمضون في طريقهم محققين أهداف ثورتهم دون أن يشعروا إلا أن كلبا عوى يعترض حقهم في الحياة فأخرس إلى الأبد. لكن السفير الإنجليزي في مصر يعترض حق أمة مسلمة في الحياة، وهذا -في منطق الصليبية- عمل مشروع. ولو أن أحدا مسه بسوء لقالوا: يسوع قتل مرة أخرى، ولن ترضى السماء فداء له إلا قتل أمة بأسرها".
وهكذا "تدخل الإنجليز لقتل الثورة في مهدها، واستطاعوا بخبثهم الاستعماري أن يستصدروا فتوى من الخليفة التركي بأن عرابي عاص، ثائر، لا تجوز مساندته. ولكن علماء الأزهر سارعوا فكذبوا الخليفة المضلل، وأصدروا فتوى بأن عرابي على حق، وأن العمل معه جهاد" ، ومن جهتها "أسرعت إنجلترا إلى إنزال قواتها بأرضنا لإرغامنا على قبول هذا اللون من الحكم الفاسد".
ولم يكن صعبا اصطناع ذريعة للاحتلال، فإن "حمارا (بتشديد الميم) مالطيا أحدث بعض الشغب، وناله بعض الأدب كان السبب المباشر لضرب الإسكندرية بقذائف الأسطول. وكان بداية الطريق المشئوم للاحتلال الإنجليزي المبيت" ، وقد "أرسل عرابي إلى غلادستون يهدده -قبيل قذف الإسكندرية- بإعلان الجهاد العام حسب تعاليم الإسلام. وكان هذا الإعلان كافيا ليفض الأقباط من حوله وينفرهم من الدفاع عن البلاد!!" ، وسارت الأحداث بما لا تشتهي السفن حتى دخلت إنجلترا "وادي النيل لتطفئ حركة الإصلاح الشعبي التي قام بها أحمد عرابي، وتمكن للفساد السياسي والاجتماعي المنبعث من القصر الملكي يومئذ".
على هذا النحو "فشلت الثورة العرابية، ودخل الإنجليز مصر، وما لبثوا حتى أضاعوا السودان، ووضعوا سياسة فصله عن دولة النيل الكبرى، ثم ضاعت أوغندة، وتبعتها إرتيريا، واطمأنت الصليبية إلى موت هذه الدولة الكبرى قبل أن تولد، ولعق الإسلام مرارة هذه الهزيمة في سكون!!".
الأول: هو الضعف، فإن "عرابى -مهما كان مخلصا قويا- أعجز عن مقاومة القوى الكثيرة التي كادت له في الداخل، وهجمت عليه من الخارج. ولكننا لا نزال ننظر بإعزاز وتكريم للمبادئ التي ناصرها. والتي جادل في ساحة عابدين عنها".
ماذا كان يتم لو أن ثورة الزعيم أحمد عرابي نجحت واستقر لها الأمر؟ كانت ستقوم دولة عربية إسلامية كبرى تشمل وادي النيل كله مصر والسودان وأوغندا وإرتيريا |
والثالث: هو السذاجة، وذلك أن عرابي "وثق بكلمة الأفاق الفرنسى "دي لسبس" وترك القناة مفتوحة، فبعد أن دحر الإنجليز في كفر الدوار، وولوا مدبرين، جاءوا عن طريق القناة، وألحقوا بنا شر الهزائم، ولا يزالون معسكرين حول التل الكبير منذ هزمونا إلى اليوم. وقد اعتبرنا وفاء عرابي لدي لسبس غفلة يلام عليها أشد اللوم. وأجمع النقاد على أن وفاءه هنا كان خطأ كبيرا".
وما إن هُزِمت الثورة العرابية واحتل الإنجليز مصر حتى "بدأت مأساة تزوير التاريخ فأهيل التراب على دور الإسلام والأزهر في كفاح المظالم السياسية والاقتصادية، وأطبق الصمت على ما فعله رجال عظام- ببواعث دينية خالصة- لإحقاق الحق وإبطال الباطل.. والغرض من هذا التآمر المريب غمر الدين وأهله، حتى يبدو الإسلام وكأنه مخدر للشعوب!! وإنها لخسة محقورة منكورة أن يجرد الشريف من فضائله، ثم تطرح عليه معايب الآخرين.. ولكن ذلك ما وقع، فقد محيت الصبغة الدينية عن هذه الثورة وعرضت في الكتب المدرسية وغيرها مجردة من طابعها الإسلامي، كما يجرد الدم من كراته الحمراء والبيضاء، فماذا يبقى منه؟".
ويتحسر الغزالي على مصير تلك الثورة الواعدة، ويتأمل النتائج العظمى التي كانت لتحدث لو نجحت الثورة:
"ماذا كان يتم لو أن ثورة الزعيم أحمد عرابي نجحت واستقر لها الأمر؟ كانت ستقوم دولة عربية إسلامية كبرى تشمل وادي النيل كله مصر والسودان وأوغندا وإرتيريا. فإن السلطان المصري كان يمتد حتى منابع النيل ويشمل فيما يشمل هرر ومصوع. رقعة فيحاء متكاملة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا إذا واتتها ظروف الحياة الراشدة كونت دولة من أقوى دول البحر الأبيض، وكان لها في العالم كله صوت مسموعي.. أي مستقبل سعيد ينتظر الإسلام إذا قامت هذه الدولة؟ دولة سيشيع في ربوعها العدل الاجتماعي، وتتوطد في أركانها الحريات السياسية".
في المقال القادم إن شاء الله تعالى ننظر رأي الغزالي في جمال الدين الأفغاني.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.