شعار قسم مدونات

الالتزامُ المُخادِع.. سِلاحٌ ذو حَدَّيْن

blogs دعاء

لقد كنت أتساءل كثيراً عن أناس يدخلون في الدين الإسلامي بعدما كانوا مشركين وملحدين، يكون الالتزام لديهم قوي جدا ومتين ليس من السهل أن ينحرف، فتكون أعمال الجوارح مرتبطة ارتباط شديد في عمل القلب والتي يكون منبعها العقل السليم صاحب الفكر القويم. وأما الصورة الأخرى وهي لأناس كثيرون ولدوا على فطرة الإسلام، ولكن مع مرور الزمان وتغيير المكان يتأثر الالتزام في هذا الإسلام فيكون هشاً في القلوب، ومهزوزاً في العقول، ومشوشاً في الأفكار، ومهيناً في عمل الجوارح، فيكون الانحراف سهل المنال، والتأثير وملاقاة الغير على نفس الشاكلة كثير التواجد في الزمان والمكان.

إن حال من كان على غير ملة الإسلام فأراد بعدها الدخول في هذا الدين يكون دخوله بكل قناعة فكرية وقلبية، فيترسخ في عقله وقلبه أولا مفهوم العقيدة والتوحيد، وهذا ما جعله يدخل في دين الله من غير تردد، والشرائع والتوجيهات من حلال وحرام تكون عليه خفيفة التكليف وسهلة التطبيق. أما من كانت ولادته على فطرة الإسلام وهي حال الكثير منا، كان التأثير على هذا الالتزام لهذا الدين النصيب الأكبر على التربية الخاطئة في مفهومها وطريقة تطبيقها، والبيئة المؤثرة من حياة عائلية ممتدة إلى حياة اجتماعية في بلد يحارب فيه الفكر الأصيل لهذا الدين، وتفضيل الفكر العلماني المُسْتَحْضِر عليه.

 

وللأسف كانت أولوية التربية على الحلال والحرام قبل الثبات والتثبيت على العقيدة والتوحيد. هذا ما جعل الكثير من الأجيال أصحاب قلوب ضعيفة تتأثر بغيرها بسهولة، وسريعة الانحراف عن مسارها. ولذلك ترى بعض أصحاب الالتزام المخادع ممن ولدوا على فطرة الإسلام، لم تتربع العقيدة والتوحيد وطريقة تفعيله في العقول والقلوب بشكل صحيح وقويم، حتى كانت مخرجات هذا التفعيل الخاطئ على عمل الجوارح مخرجات سلبية، فيكون الأثر كبيراً على النفس الداخلية حتى يمتد هذا الأثر على الأفعال ومن ثم يمتد إلى نطاق العائلة فالمجتمع فالأمة.

الالتزام المتشدد يظهر بتشبَّعُ الدين بالقلب على صفة التعصب والتشديد وعدم التيسير، فيحصل به تشابك الأفكار مع المشاعر القلبية السلبية، وتسبِق الحماسة القلبية حُكم العَقل

إن من وُلد على فطرة الإسلام، ولم يكن ممن تأسست حياته الاجتماعية على العقيدة والتوحيد الحقيقي الذي يعمل على تغيير العقول كما كان في عهد الرسول وصحابته العُدول. وعلى مر السنين يأتي اليوم الموعود فيحضر زائر اسمه الالتزام المخادع، فيدخل القلب الهش والعقل المهزوز، فيصبح هذا الشخص ممن يرتادون المساجد وإقامة الصلاة وعمل الخيرات، ولكن مع مرور الوقت ينسلخ منه هذا الالتزام المخادع الذي كان له من القشور الرقيقة مكان جسد، ولم تكن له من الأصول مكان عقل، فيرجع إلى سابق عهده كما ولد على الفطرة ولكن تحت تأثير الحياة الاجتماعية السلبية التي كان قد ولد عليها، ويكون أسوء حالاً مما كان عليه. فتهواه الدنيا وشهواتها، ويخلع ما كان عليه من مظاهر التَّديُّن، ويسقط الالتزام الوهمي الواهِنٌ في محتواه، الرقيق في تجسيده. فيكون هذا الانتكاس له من الأثار السلبية التي تؤثر على حياة أمة بأكملها، فيصبح هذا الشخص مثالا للظلم وسوء الأخلاق وسلب الحقوق وأكل الأموال بالباطل، بل ويسعى إلى الجهر بالمعصية وتقليل احترام الكبير والاستهانة والتجبر بضعف الصغير.

وأما المفهوم الآخر من تسلط الالتزام المخادع على الإنسان هو الالتزام المتشدد. وهنا يتشبَّعُ هذا الدين في القلب على صفة التعصب والتشديد وعدم التيسير، فيحصل به تشابك الأفكار مع المشاعر القلبية السلبية، فَتُخَلُّ الموازين، وتسبِق الحماسة القلبية حُكم العَقل، حتى يصل به المواصيل بأن يقتل ويُكفِّر حتى أخاه المسلم بسبب أفكار وهمية واهية كان المتحكم الأول لها هو الالتزام المخادع النَّابع من قلب العاطفة حتى عَمَت بصيرَتَهُ.

وفي تلك الحالتين، يتحول هؤلاء الأشخاص إلى أسلحة فتَّاكة، الأول صاحب الالتزام الوهمي، يظن في قرارة نفسه بأنه فشل في تقييم التزامه في الدين، ويظن أن ما كان به ما هي إلا أفعال تم المبالغ فيها. ولا يستطيع عين الناظر لحال هذا الشخص إلا أن يقول بأنه انحراف من بَعْدِ مشيخة والتزام. وأما الحالة الثانية وهو الإنسان المتشدد، عين ناظره أنه إنسان تكفيري، يُقِع الخوف والرعب في قلوب ناظريه وسامعيه.

وهل من الفقه والعلم بمكان في عقول هؤلاء أصحاب خدعة الالتزام، أنهم يقومون مقام إعلان حرب على كافة الأصعدة على بني جلدتهم قبل غيرهم، فتصُّرف واحد ينبُع من شخص أهوج، يصِلُ صداه وأثره على أمَّةٍ بأكملها. كما جاء في صحيح بخاري ومسلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمى والسهرِ).

الابتعاد عن أدوات وأساليب إثارة العواطف وطغيانها على أفكارنا وعقولنا، يسعادنا على تربية ومجاهدة أنفسنا وردعها عن سوء الاختيار
الابتعاد عن أدوات وأساليب إثارة العواطف وطغيانها على أفكارنا وعقولنا، يسعادنا على تربية ومجاهدة أنفسنا وردعها عن سوء الاختيار
 

إن هؤلاء أصحاب الالتزام المتشدد المؤدي انحرافه للتكفير، وأصحاب الالتزام الوهمي المؤدي انحرافه للظلم والأخلاق السيئة، لو كانت العقيدة والإيمان والتوحيد الحق متأصلاً في العقول لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه، بل الحقيقة الغائبة أخفاها عنهم التزامهم المخادع المتحكم في عواطفهم ومشاعرهم، والذي قام بخداعهم والاغتِرار بهم، حتى كانوا من أصحاب الكلمة والفعل الأهوج الذي أثَّر على حالهم وامتد أثره على أمة من بعدهم.

وهكذا، يكون هذا الالتزام المخادع بعقلية وفكر وقلب هؤلاء الأشخاص هو سلاح ذو حدَّين، إن كان من تمسَّكَ به بِضُعفٍ أو مَن تَمسَّك به بِتَشَدُّد وصَرامة. وهكذا يتم نقل صورة الإسلام والمسلمين لِنَاقصي العقول وقاصري النظر أن الإسلام بالإجماع هو إسلام عنف وقتل وتهجير!

ولا أذكر هنا الأشخاص الذين هم مثلي ومثلك نجاهد أنفسنا على أن لا نقع في المعاصي، ومن ثم نرجع ونعصي الله ونستغفر ونتوب، كما جاء في صحيح ابن حبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنَّ رجلاً أذنبَ ذنباً فقال: أيْ ربِّ أذنبْتُ ذنباً – أو قال: عمِلتُ عملاً – فاغفِرْ لي، فقال تبارك وتعالي: عبدي عمِل ذنباً فعلِم أنَّ له رباَّ يغفِرُ الذَّنبَ ويأخُذُ به، قد غَفَرْتُ لعبدي. ثمَّ أذنَب ذنباً آخَرَ – أو قال: عمِل ذنباً آخَرَ – قال: ربِّ إنِّي غنِلْاُ ذنباً فاغفِرْ لي، فقال تبارك وتعالى: علِم عبدي أنَّ له رباً يغفِرُ الذَّنبَ ويأخُذُ به قد غفَرْتُ لعبدي. ثمَّ عمِل ذنباً آخَرَ أو أذنَب ذنباً آخَرَ فقال: ربِّ إنِّي عمِلْتُ ذنباً فاغفِرْ لي، فقال اللهُ تبارَك وتعالى: علِم عبدي أنَّ له رباً يغفِرُ الذَّنبَ ويأخُذُ به، أُشهِدُكم أنِّي فد غفَرْتُ لعبدي فلْيعمَل ما شاء".

علينا الابتعاد عن أدوات وأساليب إثارة العواطف وطغيانها على أفكارنا وعقولنا، وأن نقوم على تربية ومجاهدة أنفسنا وردعها عن سوء الاختيار وعدم الحياد عن طريق الخلاص، والبدأ بثبات النفس على عقيدة صحيحة وتوحيد لله الواحد الصمد، حينها سيتغير مفهومنا وطريقة تفكيرنا، فتتغير الأجيال متتالية، ثم أقوام فأوطان فأُمَم، وذلك مما قال الله عز وجل به: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.