شعار قسم مدونات

صرخة الميلاد

مدونات - طفل

عندما خرجنا من أرحام أمهاتنا، خرجنا بصرخة قوية يسمعها كل من في أرجاء الركن الخاص في مشفى التوليد، فيضحك الوالدين ويذرفون دموع الفرح كل من أصدقائهم والأطباء والحاضرين، وتبدأ المباركات تنهال عليهم مع أول صرخة نصرخها ونحن عراة الجسد.

 

ليتم بعدها منحنا اسم ولقب قد اختاروه هم وبغضّ النظر إن كان سيعجبنا أم لا، حتى وإن لم يعجبنا فهل سنصبح على قَدرٍ عالٍ من الجرأة تكفينا لأن نغيّره؟ حتماً لا. ومن ثم نبدأ نعارك الصمتَ القاتل ونحاول جاهدين في القضاء على التلعثم وتبدأ رحلة تعلم اللغة الأم لننجز فيما بعدها إنجازنا الأول في الحياة، ألا وهو نطق أي كلمة (بما يرضيهم).

 

ومن ثم نبدأ بتعلم مبادئ المجتمع الذي يحيط بنا وتلقّن أفكاره، فنشبّ على فكرةِ أنّنا لسنا الوحيدين ولكنّنا الأفضل، فيخرج من داخلنا الأنا التي تقاتل جميع من حولها لأنها هي الصواب والجميع دون استثناء على خطأ. فننتظر المرحلة الشبابية بفارغِ الصبر لنُخرج الشخص الذي نبنيه في داخلنا منذ سنوات، وتأتي تلك المرحلة العمرية ليتحول فيها كل شيء، فتصحى في صباحِ إحدى الأيام، غير مقبول لتلك الوظيفة التي قدّمت سيرتك الذاتية إليها منذ أشهر، وصديقكَ الذي لا يحملُ ذات الشهادات التي تحملها وعلى الرغم من أنه لا يجيدُ الانجليزية قد قبل فيها.

 

أنت مذنب.. ذنبك أنك عربيّ تملك أوراق عربية، غير حاصل على جواز أمريكي أو أوروبي بشكل عام، وأنت لا زلت لا تعلم أن العروبة جرم في هذا العصر

وتأتيك الورقة التي تنتظرها منذ أسابيع تنتظر فيها الموافقة على زيارة تلك البلاد التي طالما قد حلمت بها، فيأتيك (مع الرفض) وبخط أحمر يزيّن عرض الورقة. لتعجب من الرفض لأنك حقاً قد استوفيتَ كل الشروط المطلوبة، فتنظرَ لنفسك في المرآة ظناً أن المشكلة تكمن في مظهرك، ولكن.. حقاً أنت وسيم وجميل للغاية، ما العيب إذاً.. ستقف ساعة كاملة تبحث فيها عن طريقة جديدة لتبييض أسنانك وتحاول أن تصنع لنفسك تسريحة جديدة تزيد من وسامتك، ستبحث عن حلاّق محترف يغير من شكلك، ستظل تتعجب وتتعجب إلى أن تدرك حقيقة الواقع..

 

هل أنت مذنب.. ما ذنبك إذاً لهذا الرفض؟ سأكون أنا مرآتك وسأجيبك بالقليل ولن أخذ من وقتك الكثير. ذنبك أنك عربيّ تملك أوراق عربية، غير حاصل على جواز أمريكي أو أوروبي بشكل عام، وأنت لا زلت لا تعلم أن العروبة جرم في هذا العصر، ربما هذا يجعلك تشعر بالفخر ولكن ليس في القرن الحادي والعشرين يا أخي، كأنك بهذا كنت الشخص المناسب ولكن ليس في الوقت ولا المكان المناسبين، أنت أتيتَ في وقتٍ يتصارع فيه الجميع، ربما لأجل مذهب أو طائفة، دين أو حدود، مال أو سلطة، مبدأ أو فكرة.. وبمجيئك إلى الحياة في هذه البقعة الجغرافية فأنت قد حكمت على نفسك أن تنضم إلينا وتشاركنا في القتال ولكن لك حرية اختيار السبب، نحن نجبرك على القتال ولكن لا نملك حق إجبارك على سببه فاختر الذي تشاء..

 فإن لم تقاتل معنا تحت أي مسمى، فإن لك إحدى السجنين، إما أن تختار السجن الخارجي وهو أن تسافر وترحل بعيداً إلى تلك البقعة الآخرة من الأرض  لأجل غير مسمى، نعطيك هوية جديدة وبلقب جديد ولكن نحن من سنختاره لك أيضا هذه المرة، ستعيش على أمل الانتظار وعلى شوق شديد لكلمة "عفو" تتصدر صفحات الجرائد ذات صباح، سيأتيك السجان على هيئة يوم روتيني قاتل، لا تجد فيه من تقول له صباح الخير بلغتك الأم التي لطالما تصارعت مع لسانك لنطقها عندما كنت في الثالثة من عمرك، ستكون القضبان على هيئة مكتب عمل تترأسه ولكن لا يمكنك أن تغادره وحتى في أقسى حالات مرضك لأن القانون فوق الجميع وستموت وحيداً كما أتيت وحيداً..

ستمكث هنا ربما سنة أو سنتان أو ربما عشرون عاماً من الظلم والظلام، تحسد الطيور المهاجرة فوق سماء هذه البلاد، ستندم لأنك أتيت على هيئة إنسان
ستمكث هنا ربما سنة أو سنتان أو ربما عشرون عاماً من الظلم والظلام، تحسد الطيور المهاجرة فوق سماء هذه البلاد، ستندم لأنك أتيت على هيئة إنسان

 

وإما أن تختار السجن الآخر، الذي قد عرف عنه بأنه السجن الداخلي، وقيل أنه السجن المميت وهو أن تُحبس بين أربعة جدران حدودية، لا تستطيع مغادرتها، ألبسوك تهمة لا تدري ماهيّتها أيضاً، ولكنّك تراقب الشمس من ثقب صغير لا تستطيع منه أن تكسب نور الشمس ولا حتى دفئها، ستظل تراقب من هذا الثقب كل أولئك الذين يتمتّعون بالحريّة في الخارج، وأنت هنا جالس تنتظر الإذن من السجّان بأن تقضي حاجتك..

 

ستمكث هنا ربما سنة أو سنتان أو ربما عشرون عاماً من الظلم والظلام، تحسد الطيور المهاجرة فوق سماء هذه البلاد، ستندم لأنك أتيت على هيئة إنسان، فالإنسان في بلادي يا أخي لا يتمتّع بأدنى ما يعيشه في تلك البلاد أي حيوان يؤسفني أن أخبرك الآن أن الصرخة التي قد صرختها في اليوم الأول هي صرخة الموت وليس الميلاد، فالحياة هي داخل أحشاء والدتك، أما ما بعد ذلك فهو الوفاة وليس أكثر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.