شعار قسم مدونات

بعد أن أتمتت قراءة 500 كتاب.. لماذا نقرأ؟

blogs قراءة

الحكايةُ لم تبدأ اليوم.. بل منذ أكثر من عشر سنواتٍ، تحديدًا عندما أهداني أحدهم كتابًا أنيقًا يحمل اسم المُباركفوري على هامش اجتيازي لاختبارات الشهادة الابتدائية بتفوقٍ، كان الكتابُ هو الرحيق المختوم الذي أسردَ فيه العلّامة الهنديُّ سيرةَ الرسولِ الكريمِ بعرضٍ كان ولا زال الأروع في هذا الشأن، التهمتُ الكتاب في خمس ساعاتٍ وجلستَيْن بمعدل ساعتَيْن ونصف للجلسة الواحدة، ثم وجدتُني على غير عادتي أطلب المزيد، أنا الطفل الذي ظلَّ بعيدًا عن عبَقِ الكتب ورائحة الورق عَدَا صفحات المناهج التعليمية، يطلب القراءة ويشتهيها!

فتنتْني القراءةُ منذ ذلك الحين، رغم أني لم أستمر لأسبابٍ عدةٍ كان أبرزها استحالةَ وجود متجرٍ للكتب في بلدٍ ريفيةٍ تحبُو خلف منافذ الثقافة بأميالٍ وأميالٍ، وأيضًا لانحسار أمواج الفكر خارج المدرسة وكُتَّاب القرية. اليوم وبعد أن أتممتُ قراءةَ خمسمائة كتاب، تراودني مشاعرُ مختلفةٌ.. وأسئلةٌ لا تأتي غالبًا إلا في برد الشتاء، لماذا نقرأ؟ وعلامة الاستفهام تقتضي لإزالتها جوابًا شافيًا.. فقررتُ أن أتجرأ بالخوض في غمار تجربةٍ لا زلتُ أحسبها وضِيعةً في عالم القراءة المثمرة لأحصل على الجواب.

لماذا نقرأ؟
نحن نقرأ لفَهْمِ ذواتِنا التي غَمرَها اليأس واستعصتْ عليها مدارج الحياة أكثر من مرةٍ، نقرأ لنفهمَ أن (الجريمة والعقاب) متلازمَيْن في كل الشرائعِ العادلة، وأن (المُقامِر) بأعراض الناس ودمائهم ليس له جزاءٌ إلا القتل

أظنّنا نقرأ لتطوير فكرةٍ واستحداث رأيٍ وتكوين ثقافةٍ لن تأتي إلا بالاطِّلاع، دراسةُ التاريخ والفلسفة وعلوم النفس تقتضي أن تشتمَّ رائحة الكتاب لأكثر من ألف متر، كما أن النتائج السلبية لظهور النخبة غير المثقفة قليلة الاطلاع أودَى بالشارع إلى مرحلةٍ خطيرةٍ من انعدام الرؤية واتساعِ الفجوة الفكرية بين الجيل والجيل الآخر.

نحن نقرأُ لأنفسنا، لأولادنا الذين لم يأتُوا بعد، لحبيباتِنا اللاتي يطرِبن لقصيدةٍ أكثر من خاتمٍ فضيٍّ، لآبائنا الذين أورثُونا حبَّ العلم والدين واللغة، نقرأ لنقتصَّ الجزء السوداوي أعلى صورة دُنيانا بجانبٍ من الجمال الموجود داخل الكتب، لنعرف عن ذلك الذي (عرفَ كيف يموت) بعدما زهِد الحياة، لأنَّ عاشور الناجي و(الحَرافيش) أصبحوا أعلامَ كلِّ حيٍ في بلادٍ تسكُبُ الظلم مُرًا في وَضَح النهار.

نحن نقرأ لفَهْمِ ذواتِنا التي غَمرَها اليأس واستعصتْ عليها مدارج الحياة أكثر من مرةٍ، نقرأ لنفهمَ أن (الجريمة والعقاب) متلازمَيْن في كل الشرائعِ العادلة، وأن (المُقامِر) بأعراض الناس ودمائهم ليس له جزاءٌ إلا القتل، وأن التي قالت (إني راحلة) كان لزامًا علينا إلحاقها بصف الخارجِين على القانون.

نحن نقرأ لأن تذكرة السفر عبر الورقة لا تتطلَّب أكثر من كوب قهوةٍ ومُتَّكَأً هادئٍ ونفسٍ تتُوق إلى الهجرة، لنرى كيف يبدو (قمرٌ على سمرقند) في بلادٍ بعيدةٍ عرفناها من خلال تاجْ (محال)، لنعرف عن حريق (شيكاغو) بحروبه العنصرية قديمًا وحديثًا وكيف أن (نادي السيارات) كان مجتمعًا غنيًا يعجُّ بالملوك والأمراء في زمن الحكم المُتوارَث.

نحن نقرأ لنعرفَ أن (ضمير الغائب) مات في الأمة التي كان (مهندس الظل) شجاعًا فيها حتى الشهادة، لنعرف أن (وحي القلم) لابد له من إجلالٍ وتعظيمٍ لأنه عُصارةُ فكرٍ وتجربةٌ نابضةٌ بالإنسانية وأن (أوراق الورد) كانت تُستخدم قديمًا في العِتاب كما الحب.. في دستور المُتيّمِين بالجمال، لنعرف أن (يوتوبيا) مدينةٌ نراها بيننا اليوم على قيد الحياة وأن الثعلب الموجود (في ممر الفئران) يومًا سيختنق، لنعرف أن (النظرات والعبرات) لعاشقٍ قديمٍ قاتلةٌ.. وأن (الساعة الخامسة والعشرين) كانت شاهدةً على نَحْر (قواعد العشق الأربعين ) بيننا، نقرأ لنعرف أن (الأمير) الطفل بات مَلِكًا مُتوَّجًا في دولة الجنون وأن (القوة) التي بين يديه عساها يومًا إلى زوال وإن طالتْ قرونًا.

نحن نقرأ لأن الكتاب هو الوسيلة المجانية الوحيدة لتسلُّقِ جبال السعادة في عالمٍ باتَ المال فيه الركيزةَ الأهمَّ لبلوغ الراحة
نحن نقرأ لأن الكتاب هو الوسيلة المجانية الوحيدة لتسلُّقِ جبال السعادة في عالمٍ باتَ المال فيه الركيزةَ الأهمَّ لبلوغ الراحة
 

نحن نقرأ لنلتقي الرافعي الذي مات ولم نَرَه، لنقابل محفوظ في ممرات وسط البلد أو في مقهى ريش، لنرى ماذا صنع ديستويفسكي وتُولستوي بشعبٍ ممزَّقٍ من نزاعات الحرب والدمار، لنرى ابتسامةً تزين وجه إدريس ونرحل إلى حيث يسكن السباعي، لنعرف حكايات الإنجليز من شكسبير ونحلقَ في الفضاء الفسيح الذي رسمه دافنشي، لنعيش ألم البؤساء في ضواحي فرنسا مع هوجو ونرتقيَ بأفكار نيتشه ونعرفَ الأوباش من خيري شلبي.. ونكتمَ ضحكة ساخرة على يوميات نائب في الأرياف عاشها يومًا توفيق الحكيم، وإلى كل ذلك نبحرَ إلى عالم أجمل حيث الحب وسيلة للحياة.. والإنسانية دستور مُلزِم للعالمين.. والمودة قائمة في دواخل الناس.. والرحمة مَكفُولة للصغير والكبير وللجميع سواء.

ببساطةٍ، نحن نقرأ لأن الكتاب هو الوسيلة المجانية الوحيدة لتسلُّقِ جبال السعادة في عالمٍ باتَ المال فيه الركيزةَ الأهمَّ لبلوغ الراحة، ولأن دراسة الهندسة المتراكمة على جذور المخ تكاد تصيبه بالجنون دون روايةٍ تخفِّف العناء وتُذهِب السَّقَم، ولأن الذي قام بأول ثورةٍ في التاريخ كَتَب في صدر أول صفحاتها : لا ثورةَ إلا بفكرٍ.. فقرأوا وثُوروا على كل شيءٍ لا ترونَه صحيحًا بالمرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.