شعار قسم مدونات

دروس البلاء والعافية

blogs صلاة و دعاء

ما كان أيوب عليه السلام ليرتقي لدرجات الإيمان العالية لولا مرضه الذي اشتد عليه فترة طويلة، فما كان منه إلا أن واجهه بصبر منقطع النظير وروح قوية ونفس واثقة في خالقها وفِي ما كُتب لها رغم وطأة المرض التي كانت تنخر الجسد كل يوم أكثر من سابقه. ما زاد البلاء أيوب عليه السلام وغيره ممن اصطبروا على كل أنواع البلاء في الدنيا إلا قوة، فكلما زادت درجة الألم زادت درجة المقاومة رغم أن الجسد منهك إلا أن القلب منغمس حتى التخمة في حب الله والرضى بقدره.

 

واجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظلم الناس بالدعاء الطيب لهم ورد بلال الحبشي على ثقل الصخور التي كانت توضع على صدره ليرغم على الشرك بالله بكلمة "أحد .. أحد" موحدا لله تعالى من وسط المِحنة. أما آل ياسر فقد بلغ بهم الصبر على البلاء مبلغا لا يصله جميع الناس واستشهدوا في سبيل الله في سبيل إعلاء كلمته.

 

كنت أتساءل دائما لماذا لم يمارس بلال وآل ياسر التقية وأوهموا من كانوا يعذبونهم بأنهم عادوا إلى الكفر لإنهاء ذلك الوابل من العذاب الذي ألحق بهم لما كان الإسلام غريبا لا يُؤْمِن به إلا القلة؟ لكن حبهم لله وقوة إيمانهم في تلك الفترة جعلتهم يأبون إلا أن يصبروا صبرا جميلا لينالوا البِرَّ. مع مرور السنين وتراكم التجارب والمواقف تحولت شفقتي على هؤلاء الناس إلى غبطة لأنهم اختاروا الطريق الأصعب والأكثر وعورة ذلك الذي لا يسلكه سوى العارفين بالله، طريق الإيمان المطلق والصبر على البلاء.

 

 عندما ينزل البلاء ترى العبد في غالب الأحيان يتساءل عن الحكمة من ذلك وعن سبب اختياره هو "لماذا أنا بالتحديد؟" فيلعن الزمان والظروف ويتأوه ويتأفف مهما صغر البلاء، بينما يلوذ الصابر لحكم ربه بالصمت فلا تسمعه يردد غير عبارات الحمد والشكر لخالقه مهما عظم البلاء.

 

"إنَّ العبدَ ليَتَعلَّمُ في ساعَات البَلاءِ ‏ما لا يتعلَّمه في سِنين العافية" فيعرف أكثر ويصبر أكثر ويفهم أكثر
 

هناك علاقة وطيدة بين المحن والصبر عند بعض الأشخاص فكلما اشتدت محنتهم زاد صبرهم وارتقوا إلى درجات عالية من الإيمان والتحمل، وكأن حرارة الجسد المرتفعة تشفيهم وكأن وطأة الألم تزيد من جرعة الأمل وكأن دموع المعاناة الحارقة تغسل تلك الروح التي تعبت من الدنيا وتضعها في مهد مريح كرضيع بكى كثيرا فوُضع على جنبه ليرتاح. 

 

خلال البلاء يمر شريط حياتك أمام عينيك، تطرح على نفسك أسئلة لم تفكر فيها يوما، تتغير نظرتك للأمور وطريقة تفكيرك، يصير النوم الذي لم تفكر في حلاوته ونعمته يوما حلما وتصير أشياء بسيطة كالأكل والشرب والمشي أو ربما التنفس حلما يراودك لأنك ابتليت في صحتك التي لم تقدر قيمتها يوما.

 

يتكبر المرء ويتجبر، يعيث في الأرض فسادا، يظلم ويكذب، يأتي الليل فيرمي بظلاله الحالكة فترتفع حرارة الجسد ويشرع عضو صغير جدا كالضرس في بث جميع أنواع الألم في الجسد كله. عضو متناهي الصغر يحرم النوم ويبث ألما منقطع النظير ينسي المرء جشعه وطمعه وحبه المريض للدنيا. يهذب البلاء النفس ويغير في شخصية المرء كثيرا لأنه يضعه في موقف لم يتخيل يوما الوقوع فيه، فما يكون منه إلا الصبر على الشدائد والاحتساب فيكون ذلك الابتلاء كالحرارة المرتفعة والضغط اللذين يحولان الصخور إلى معادن وألماس في قعر الأرض. يَصير العبد مقدرا للنعمة مهما صغرت وكأن القدر أنزلنا لمكان لا نحبه لنعيش التجربة والألم والحرمان ثم نعود إلى مكاننا وقد حملنا معنا دروسا وعبرا وشيئا ثمينا لم نكن لنعثر عليه لو بقينا في برجنا العاجي.

 

"إنَّ العبدَ ليَتَعلَّمُ في ساعَات البَلاءِ ‏ما لا يتعلَّمه في سِنين العافية" فيعرف أكثر ويصبر أكثر ويفهم أكثر فيصير هذا المنع عطاء وتصير هذه النقمة نعمة. تمر السنين ويزداد المرء نضجا وشكرا ذلك البلاء الذي جعل منه إنسانا أفضل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.