شعار قسم مدونات

حوت قطع شباك الرقابة العائلية

BLOGS - الحوت الأزرق

ما زال المرء يجد صُعُوبَةً في تصديق أن لعبة بالهاتف يمكنها أن تشنق رُوحًا في الواقع، رغم أَنَّ الوطن العربي يشهد من سنوات حملة صراعات متواصلة وحدود مقفلة، إِلَّا أَنَّ الحوت الأزرق ذاك الحيوان اللطيف تَسَلُّلٌ عبر البحار والمحيطات، مُخَلَّفًا بعد رحيله براءة تعود إلى السماء، وَعَائِلَاتٍ تحمل مناديل علامات الإستفهام، وَحُكُومَاتٍ لا تحمل في أجندتها عُقُوبَاتٍ ردعية سلامة لأطفالها في ملتقيات حقوق الطِّفْلِ.

 بكبسة زِرّ ستعيش تحت رحمة لعبة لِمُدَّةِ خمسون يَوْمًا، تبدأ بعقد اِتِّفَاقٍ ووشم في الذِّرَاعِ يحمل علامة هذا الحيوان، ومن هنا تبدأ عَمَلِيَّاتُ الإبتزاز، خروج في منتصف اللَّيْلِ، سماع موسيقى هادئة تضيف شَيْئًا من الإكتئاب، المشي حافيا فوق سطح البيت، أو فوق جسر قريبا كَسَّرَا للخوف، مشاهدة أفلام رعب، وسط كُلِّ هذه الطَّلَبَات الغربية والمريبة يقضي المراهق وقته تَتَّبِعَا لِكُلِّ هذه التَّعْلِيمَات.

بالعودة إلى ما خَلَّفَتْهُ هذه اللُّعْبَةُ من قطف لِزُهُورٍ ما زالت تَتَفَتَّحُ في هذه الحياة، نكاد نَعُدُ ضحاياها في كُلِّ بَلَدٍ عَرَبِيٍّ وَأُورُوبِّيٍّ، الجزائر ،تونس ، المغرب، السعودية، مصر، الأردن، روسيا، أوكرانيا، والقائمة تطول، لَكِنَّ السُّؤَال الَّذِي يئن فور سماعنا لهذه الأرقام كيف أفلت الحوت من شباك الرَّقَابَةِ العَائِلِيَّةِ؟

اليوم لا نُوَجِّهُ أصابع الإتهام إلى الرُّوسِيِّ فيليب بوديكين مخترع هذه اللُّعْبَةِ، كُلُّ الوزر يقع على العائلة أَوَّلَا، دم المراهق برقبة كُلٌّ أم وكُلِّ أَبٍ

الزَّوَاجُ ليس بالأمر الصعب، الأصعب يكمن في الآتي بعد الفستان وعقد القران، وَالمَسْؤُولِيَّة الملقاة على عاتق الآباء وَالأُمَّهَات بعد الإنجاب، المراقبة، التَّعْلِيم، التَّرْبِيَة، تلك الأسس الَّتِي تكاد تندثر في مجتمعاتنا العربية، بعد أن عصفت بها التِّكْنُولُوجِيَا، فأصبحت اللِّقَاءَاتُ تكاد تكون إلكترونية، وَالنَّصَائِحُ تَرِدُ في شكل رسائل عبر الواتساب، أَمَّا المراقبة فيمكنك القيام بِجَوْلَةٍ عبر صفحة طفلك الشخصية عبر مواقع التواصل الإجتماعي، لِتَطْمَئِنَّ وتنام قرير العين، ويجهل الجمع بَيْنَنَّا أَنَّ في الخفاء يوجد ما يفطر القلب، ويدمي العين.

تَتَسَاءَلُ والدة أحد الضحايا "كيف حدث ذلك ؟"، ويستغرب أب سلوك اِبْنَه، ونتحاشى الغوص بداخل دهاليز النَّدَم، أين كنتم خلال هذه المُدَّة – 50 يوما – ؟ ، الأُمُّ هي الكاشف الأَوَّلُ في العالم بحالات الحزن بأعيننا، وبريق الفرح بقلوبنا، والأب مقياس نبرة صوتنا، ومحلل تعابير وجوهنا، كيف غابت عنهم حالات الإكتئاب، والإنزواء، ولحظات التَّشَتُّتِ الَّتِي يعيشها المندمج في هذه اللَّعْبَة.

 لَمْ تَعُدْ الحياة سهلة المجاراة، فَالتِّلْفَازُ الوحيد الَّذِي كان في البيت يُقَدِّمُ قناة وحيدة، أصبح اليوم يستعمر كُلَّ الغرف بقنوات تَتَعَدَّى شعر رأسك، والهاتف الَّذِي كُنَّا نقفز عند شرائه حاملا لعبة ثُعْبَانٍ يلاحق تُفَّاحَةً، أصبح اليوم جِسْرًا لعبور كُلَّ ضِفَّةٍ أرعبنا نطق اِسْمِهَا، فما عادت الأُمُّ تَفَقُّهٌ في البرامج الإِلِكْتْرُونِيَّةَ، ولم يعد الأب جَاهِزًا لفتح طاولة نقاش مستديرة، يهرع لشراء الهاتف الفلاني من دون توصيات ولا حَتَّى جولة اِسْتِطْلَاعِيَّةٌ لمعرفة ما يحمله، المهم وَالأَهَمُّ في كل ذلك هو شراء صمت الطفل، وَإِيقَافٌ حَرَّكَتِه المتواصلة، وشجاراته المُسْتَمِرَّة.

اليوم لا نُوَجِّهُ أصابع الإتهام إلى الرُّوسِيِّ فيليب بوديكين مخترع هذه اللُّعْبَةِ فقد حمل من الوقاحة ما جعله يُبَرِّرُ فعلته بتنظيف المجتمع من النُّفَايَاتِ البِيُولُوجِيَّة التي كانت ستؤذيه لاحقا، كُلُّ الوزر يقع على العائلة أَوَّلَا، دم المراهق برقبة كُلٌّ أم جعلت من المطبخ مَعْقِلًا لها، ظَنَّا منها أَنَّ اشباع البطون مُهِمَّة تَسْتَحِقُّ كُلُّ هذه السَّاعَاتِ التي تهدر في تحضير الأطباق، وبرقبة كُلِّ أَبٍ جعل من المقهى بيتا له، ومن التسكع مع الأصدقاء مَطْلَبًا لِلتَّرْوِيحِ عَنْ النَّفْسِ، وشفطا لضغط العمل، ونسى طفلا يحتاجه، وبنتا كانت تنتظره بعد منتصف اللَّيْلِ، تشترك الحكومات أيضا في هذه الجريمة، فالأجدر حَظْرُهَا، كما تحظر القنوات التي لا تُطَبِّلُ وفقا لَسُلَّمِهِمْ الموسيقي. 

الأُبُوَّةُ والأمومة مشروع ضخم، وأمانة ثقيلة، تحتاج الكثير من الحُبِّ قبل الجُهْدِ، كبذرة زرعت بِالرَّحِمِ، وشجرة نمت بالقلب، تسقى بالإهتمام والمتابعة، بالحوار والمصاحبة، بالإطمئنان والمراقبة، لنحصد ثمارها عند عتبة آخر العمر، بِحَفِيدٍ يناديك من بعيد بجدي، وَبِشَهَادَةٍ تكتب عند كل اِمْتِحَانٍ بَشِّرِي رحم الله من رَبَاك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.