شعار قسم مدونات

رواية تسعة عشر.. كيف تتسع لكل هذه الأرواح؟

من عاش في كنف الرواية، ستأخذ حياته اليومية منحى مغاير لما كانت عليها من قبل، فالمحاكمة الذاتية للنفس.. قيامة صغرى

إن فكرة استدعاء الأموات فكرة مستحيلة، ولكن مع تطور وسائل التسجيل الصوتي والتصوير وتوثيق ما سجل للأموات قبل موتهم. أصبح ممكن إبقاء الميت على قيد السمع والمشاهدة، ولكن العتوم استطاع فعلها! (أي مخاطبة الأموات) واستحضار أرواحهم! وليس ذلك فحسب بل استطاع أن يدير حوارات وأن يجب على أسئلة بقيت مطروحة منذ أن سئلت؟ وأن يحل خلافات دارت بين علماء وأدباء وفلاسفة وشعراء كأنه الحكم الفصل فيها! واستطاع أن يردد الشعر معهم وأن يقرأ ويأكل ويشرب بحضرتهم من غيرة كلفة، كل هذا في رواية تسعة عشر التي أنهاها في شهر كما أخبر في نهايتها.

 
رواية تسعة عشر آخر روايات أيمن العتوم التي سار بها على نهج سابقاتها بالتَّيَمُّنُ بالقرآن فمعظم أسماء روايته مقطفات من القرآن الكريم "خاوية، اسمه أحمد، يسمعون حسيسها، حديث الجنود، نفر من الجن، ذائقة الموات" ولست هنا للحديث عن كتبه بالمجمل ولست هنا أيظن للحديث على هذا النهج الذي أعتقد بأنه من أحياه هو الأستاذ أيمن (أو بمعنى أدق هو من لفت أنظار الأدباء المعاصرين لهذه التسمية) "التَّيَمُّنُ بالقرآن" وسار على نهجه كثير من الأدباء وهذا ليس موضوعنا الحالي لأني سأفرد له مقال خاصة بعنوان "التَّيَمُّنُ بالقرآن".

 

أثبت أيمن العتوم في رواية تسعة عشر مقدرته على الخوض في غمار الخيال والإبداع فيه لدرجة أنك تصّدق أنه بالبرزخ وأن كل ما يحيط به ويشاهده حقيقة مطلقة

موضوعي هو رواية " تسعة عشر" الذي استطاع كاتبها وبحنكة إثارة أسئلة وقضايا تحتاج كتب لفردها وسردها. مثل "مجازر الإنسان ووحشيته" محارق الإنسان وتعذيبه "محارق الكتب والنقم عليها وعلى كاتبيها" (لما كانت تحتويه من رفض لأحكام السلاطين والأمراء والرؤساء) "نزاعات الفلسفة والدين عبر العصور" (وصف بعض دعاة الدين بأن كتب الفلسفة هي هرطقة وليس منها فائدة وكتب مسمومة على حد تعبيرهم) "وأثارت قضايا جميلة تسيطر على الإنسان منذ بداية خليقته" الموت، البعث، البرزخ، الأبدية، الجنة، النار.." وقضايا خلافات الأدباء والشعراء وهجوم رجال الدين عليهم أمثال ابن عربي وأبو العلاء المعري.. الذين وصوفوا بأنهم ينتقدون القرآن ويتهجمون عليه".

 

يغوص العتوم في أعماق النفس.. ويلعب دور المتكلم والمخاطب، لكن على أَلْسِنة مختلفة "أدباء، فلاسفة، علماء، شعراء، أئِمَّة، زعماء، أٌمراء، رجال دين… وينتقل بكل خفة بين العصور المختلفة.. وهذه أن دل فإنما يدل على غزارة علمه ومعرفته وعلى كثرة مطالعته استطاع أن يحاور العلماء ويحاججهم وكأنه عالم لا يشق له غبار، ويحاور فلاسفة ويرد عليهم وما قيل في حقهم وإنصافهم أو ذمهم (وكأنه فيلسوف عصرهم) إذا كانوا من الذين أخطؤوا أو جاء من بعدهم من اثبت خطأهم مثل قضية "نموذج مركزية الأرض". وشعراء ينتقي من شعرهم وينهل من معينهم ويأتي بأبيات ترد على أشعارهم ويحتكموا له في شعرهم كأنه "النابغة"، واستطاع الإطاحة بأسئلة عن عرش التخليد والإجابة عليها كأن من سألوها هم الذين يجيبون عنها.

  

 undefined

 
وينتقل العتوم بين البرزخ والفانية على حد تعبيره عن الدنيا، بكل سلاسة وبكل خفة، وهنا دلالة على أن العالم البرزخي قد يكون موصول بالفانية بشكل من الإشكال حتى لو لم يكن لنا علم بما يدور في البرزخ ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنّه سأل النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- فقال: يا رسول الله: إنّ العاص بن وائل كان نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وإنّ هشام بن العاص نحر حصّته خمسين أفيجزئ عنه؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أباك لو كان أقرّ بالتوحيد فصمت عنه أو تصدّقت عنه أو أعتقت عنه بلغه ذلك. والأحاديث التي تدل على أن يصل الميت الدعاء والإعمال الصالحة كثيرة، وقد يكون هناك تواصل من نوع مختلف آما في الأحلام أو الرؤيا الصالحة أو بطريقة ما لا نعلمها.

 
أثبت أيمن العتوم في رواية تسعة عشر مقدرته على الخوض في غمار الخيال والإبداع فيه لدرجة أنك تصّدق أنه بالبرزخ وأن كل ما يحيط به ويشاهده حقيقة مطلقة، وأنه ما يشاهده ويتمناه قيد الحصول بمجرد التفكير فيه بدون التصريح وهنا قد اعتمد أيمن بالسرد وبناء روايته على الكثير من الآيات القرآنية التي تصف حال المؤمن بالجنة والأحاديث النبوية الشريفة التي تروي حاله وأن كل طلباته ملباة من غير التفكير فيها حتى، والجنة محصورة في "ما ولا ولا" (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) وهذه ما فتح المجال للكاتب للخوض في غمار الخيال الرحب الواسع الذي يجعلك تسبح في فضاه من غير تعب ولا ملل.

 
عندما تنتهي من هذه الرواية تَيَقُّن أنك كنت أمام كتاب يحتوي مئات الكتب وكاتب غزير الثقافة والمعرفة وإن استطعت أن تنهل من معينه ففعل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.