شعار قسم مدونات

هل تكفي زوجة واحدة؟

مدونات - عروس

في حكاية لا تخلوا من روايتها نوع من الغرابة، يقول أحدهم: قبل انتهاء الشهر الأول من زواجي، زارني عَمِّي وأبُ زوجتي في بيتنا الجديد، وكالعادة فرحنا بقدومه وجلسنا حوله نتبادل معه الحديث ونتلقى منه النصائح والتوجيهات، لأن الزوجين أحوج ما يحتاجان إليه في هذه المرحلة المبكرة من حياتهم هو التوجيه والتذكير وتعريف الحياة الزوجية وزواياها المعقدة والمتغيرة، ولكن العمّ الكريم حول البوصلة إلى وجهة أخرى لم تكن في الحسبان ولا أعتقد أن كل شخص يستطيع التفوه بها إلا القلة من الناس، ولم أكن أتوقع منه أبدا وخاصة في هذه المرحلة المبكرة من زواجي، ولم يسبق لي زواج قبل ابنته الفاضلة حيث قال لي من غير مقدمات ولا مواراة بلهجة عامية: ألا تعلم يا ابن أخي: زوجة واحدة لا تكفي.

 
قال: كان الرجل ذَا تجربة طويلة مع التعدد، لأن البيئة التي ترعرع فيها يغلب على أهلها التعدد وكثرة الزيجات، ولأجل ذلك لا يرى غضاضة في إثارة هذا الموضوع مع كل شخص ولو كان من خُنته وزوج ابنته سواء بحضورها أو بغيابها .قلت: التعدد مسألة مشهورة بين الأمم كلها مع اختلاف عقائدهم وانتماءاتهم في الماضي والحاضر، لأن الحياة الصعبة التي تعتمد على الرعي والزراعة وحاجة الإنسان إلى مساعد له في تدبير أموره تجعل البحث عن أولاد وذرية يقفون معه في السراء والضراء ولا يتأتى له ذلك إلا عن طريق تكثير الزواج.
 
والحديث عن التعدد وزواج الثانية أو الثالثة والرابعة يجد رواجا جذابا في مجالس الرجال ومنتدياتهم، وقد يوجه اللوم والعتاب لمن لا يدلي رأيه في إثراء هذا الموضوع، وقد يُتهم بالجبن والخوف من زوجته إذا اختار الصمت في بيان رأيه في هذا الشأن. مسألة التعدد محسومة في القرآن الكريم وأن الشخص الذي لا يستطيع القيام بواجباته على الوجه المطلوب شرعا لا يجوز الإقدام عليه بحال من الأحوال، وعليه الاكتفاء بالواحدة فقال تعالى ﴿وَإِن فَإِن خِفتُم أَلّا تَعدِلوا فَواحِدَةً أَو ما مَلَكَت أَيمانُكُم ذلِكَ أَدنى أَلّا تَعولوا﴾. وأما من يستطيع الوفاء بالواجب والقيام بالعدل المطلوب فلا يوجبه الشرع بالتعدد بل هو مسنون في حقه.

 

نعم، أمر الإسلام بتكثير الذرية والسعي لإبجادها وتوفير القدر المستطاع من الرعاية والنفقة، ولكن لم يوجب على من لا يقدر على ذلك الإقدام عليه

وقد يجادل البعض بأن كثرة الحروب والزيادة المطردة في عدد الإناث وارتفاع عدد المطلقات واحجام الشباب عن الزواج بسبب ارتفاع تكاليفه وكثرة العنوسة يوجب كل ذلك على القادرين في توفير القدر الأدنى من العدل الزواج بالثانية والثالثة والرابعة، لأن هذا أقل شيء في حل هذه المشكلة الاجتماعية التي تتفاقم وتتزايد في كل يوم .قلت: العنوسة وكثرة المطلقات وغلاء المهور واستخفاف مسؤولية الأسرة وعدم الاكتراث بالترابط الزوجي لا يمكن حلها بالتعدد وكثرة الزيجات فقط، بل هي مشكلة قديمة تتجدد في كل زمان ومكان وتبرز سوءتها خاصة عندما يعجز المجتمع أفرادا وجماعات وحكومات في حلحلة وتصحيح وتقويم الحياة الاجتماعية حسب المصالح المرعية في حفظ الدين والمثل العليا النبيلة التي تحدد العلاقة السوية بين البشر ورعاية مصالحهم العاجلة والآجلة.
 
وإذا نظرنا حياة الناس ومعيشتهم في هذا الزمان نجد بأنها أكثر صعوبة وأعظم مشكلة مما كانت عليه قبل خمسين سنة أو أكثر، لأن حياة الناس في ذلك الزمان الغابر كانت سهلة وميسرة ولم تكن تواجه كثيرا من التعقيدات والمشاكل الموجودة اليوم، فكان من السهل أن يجمع الرجل في عصمته أكثر من زوجة، وترضى القليل مما يوفرها، ولكن اليوم لم يعد الأمر كما كان من قبل، وخاصة بعد اتساع رقعة التواصل البشري وانفتاح القارات على بعضها حيث غدا العالم قرية واحدة، وأوجدت المدنية الحديثة نمط حياة جديدة لا تقتصر باكتفاء الإنسان بما يحتاج إليه من ضروريات لا يستغني عنها من المأكل والمشرب والمركب وما يحافظ على صحته ووجوده بل فرضت عليه بما هو في غنى عنها من كماليات تحولت إلى ضروريات لا تتحرك الحياة إلا بها، وغدت مشكلة عويصة تستنزف بميزانية كبيرة من جيوب الأسر والعائلات صغيرة كانت أم كبيرة.

وثمة مشاكل أخرى لا تعد ولا تحصى طرأت في حياة الناس اليوم، ومنها على سبيل المثال مشكلة التعليم عامة والتعليم العالي خاصة حيث أصبحت الحصول على الشهادة الجامعية أو ما يماثلها من شهادات المعاهد العلمية العليا من أسباب وشروط التوظيف، ولأجل تحقيق ذلك تضطر الأسر بإرسال أولادهم إلى محاضن العلم ودفع الرسوم المطلوبة في تسجيلهم، وهي مبالغ مكلفة تؤرق على كاهل المجتمع ولا تطاق لدى كثير من الأسر، ولذلك ليس من العقل الإقدام على أمر قد لا يستطيع المرء إعطاء حقه الكامل.

  

لست من معارضي التعدد ولا من مؤيدي الاكتفاء بالزوجة واحدة، لأن الأولى أباحها الشرع وقرنها بشروط مشددة
لست من معارضي التعدد ولا من مؤيدي الاكتفاء بالزوجة واحدة، لأن الأولى أباحها الشرع وقرنها بشروط مشددة
   

نعم، أمر الإسلام بتكثير الذرية والسعي لإبجادها وتوفير القدر المستطاع من الرعاية والنفقة، ولكن لم يوجب على من لا يقدر على ذلك الإقدام عليه. فالزواج من الثانية فأكثر ليس أمرا مشاعا للرجال جميعا، بل كل شخص له شأنه الخاص الذي لا يشاركه فيه أحد، فمن غير العدل أن يتساوى الناس في ذلك، فمن الرجال من له أكثر من سبب يحمله على ذلك، ولذا يجب على مراعاة هذه الخصوصيات ولا يكون الهدف من الزواج بالثانية أو الثالثة أو الرابعة بأن فلان من الناس فعل ذلك أو أن العائلة ورثت هذه العادة من الآباء والأجداد وهي من مفاخرها أو غير ذلك من المبررات التي يتناقلها الناس بدون روية.
 
وأما من له ظروف خاصة فله الحق في ذلك مع الاستعداد التام لأداء الواجب والحق الزوجي على حسب الاستطاعة مع العدل .لا تكفى زوجة واحدة مقولة يكثر تداولها بين الرجال، ولكن قلما يوجد من يستطيع تحليلها وتفسيرها بصورة صحيحة، ويتوارثها الناس تلقائيا تماشيا مع تقاليد الأجداد والآباء، ولم تجد حظها من البحث والتحقيق والدراسة والمناقشة سواء كانت عن طريق الأسرة الصغيرة أو الكبيرة بصورة خاصة أو عامة يشترك فيها المجتمع بكل مكوناته من علماء وأعيان ومثقفين رجالا ونساء لبلورتها ودراسة مسبباتها واصلاحها وعلاجها بالصورة اللائقة بها، وما لم يفعل ذلك فستبقى تدور في حلقة مفرغة يفسرها كل شخص على هواء ولا تجد بلسما شافيا.
 
وأخيرا لست من معارضي التعدد من غير سبب وجيه ولا من مؤيدي الاكتفاء بالزوجة واحدة فقظ طلبا للسلامة وبعدا عن الصداع المزمن كما يقال، لأن الأولى أباحها الشرع وقرنها بشروط مشددة، كما طالب الاكتفاء بالواحدة في حق من قصرت يده في تحقيق العدل المطلوب، ولكن مع إعطاء كل قضية حقها الخاص وعدم الجمع بين الأسباب الداعية إلى الزواج من الثانية أو الثالثة أو الرابعة في سلة واحدة وافساح المجال أمام الكل بدون تمحيص وتفصيل، فمن تحققت في حقه الأسباب الداعية إلى ذلك أقدم عليه وإلا اكتفى بالواحدة، ولا يتعلل بأن التعدد من السنة مع إخلاء الشروط المصاحبة له.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.