شعار قسم مدونات

طبيبة بتخصص الإعلام!

blogs-media
كثيرا ما حلُمتُ في صغري أن أصبح طبيبة أداوي جراح الناس وأخفف آلامهم، أزرع بسمة على وجه هذا وذاك، أطمئن قلب أم تاقت لرؤية ابنها بصحة جيدة، وأسعد قلب أُخرى بعودة زوجها إليها بكامل عافيته، وأرى أولا بسمات أم عند رؤية طفلها لأول مرة، ولكن شاءت الأقدار وحالت دون ذلك. تخرجت من الثانوية العامة بمعدل لا بأس به، ولكنه لا يدخلني ولا بأي حال من الأحوال كلية الطب، فدخلت كلية العلوم بتخصص الأحياء، علني أجد طريقا أنفذ به إلى الطب، كون الأحياء قريبٌ من ذاك التخصص. 
أنهيتُ سنتي الأولى بمعدلات أشبه بتنزيلات لدى إحدى المحال المترامية في شوارع المدينة، وأنا التي اعتدت أن أكون الطالبة المتميزة طوال السنوات الاثني عشر التي قضيتها بالمدرسة ونتيجة لكل ذلك، كرهت كل ما يمد للعلوم بصلة، وقررت تركها، لأحول تخصصي إلى الإعلام، وما جذبني له وجود أخوَاي بذات الطريق، وبعض المهارات الإعلامية الموجودة في شخصيتي التي لربما ظهرت في جيناتنا العائلية.

لتضع على كاهلك مسؤولية الحفاظ على أسرار البيوت، والعمل بكل مهنية لتوصل صوت أوجاعهم إلى الضمائر النائمة، علها تفيق

ووجدت في الإعلام ما كنت أطمح له منذ الصغر، طبيبة بصورة مختلفة، فليست جميع الأوجاع أوجاعاً جسدية، هناك آلامٌ تفوق آلامٌ الجسد، فآلامُ الروح أصعب وأشد، وكسر القلب لا يجبره طبيب، ولوعة الشوق على فراق المحب موجعة حد الموت، وسرقة الأوطان والشعور بالذل و سلب الحرية والأحوال الاجتماعية المتردية، جل هذه الآلام لا يشفيها طبيب ولا دواء، فربما دواؤها في يد الصحفي الذي باستطاعته نشر هذه الجراح في أرجاء العالم، عل ضميرا هنا أو هناك يتحرك، أو يستطيع أن يرسم بسمة على وجه من افتقدها، أو يزرع أملاً في من فقذ سبيله إلى الآمال.

صحيح أني ما زلت أجلس على مقاعد الدراسة، ولم أنتج الكثير من المواد الإعلامية بعد، إلا أنه وفي كل مرة أقوم بوظيفة لهذه المادة أو تلك، شيئ ما يُلامس قلبي، أسمع امرأة تشتكي سوء الحال، وأخرى تبكي ألم فراق ابنها الذي استشهد دفاعا عن أرضه، وفتاة في ريعان شبابها أجل زفافها مرات عدة لأن الاحتلال لم يشأ بعد موعد الزفاف واستضاف خطيبها في زنازينه، طفل تلفت أعصابه بسبب خطأ طبي، وآلامٌ لا تنتهي، وقع على عاتقي كصحفية أن أنقلها بكل صدق وإخلاص، وهذا ما أراه ويراه كل صحفي في عيون الناس، الذين يجدون بك المُخلص لأوجاعهم، وبين يديك وصفة سحرية لحل مشاكلهم، فبمجرد الدخول لبيت لإعداد تقرير ما، تشرَعف الأم بشرح كل متاعب الحياة ومشاكل لا علاقة لها بما جئت من أجله، لتضع على كاهلك مسؤولية الحفاظ على أسرار البيوت، والعمل بكل مهنية لتوصل صوت أوجاعهم إلى الضمائر النائمة، علها تفيق.

وهنا يلوح في خاطري ما كنت أظنه في الصغر، عندما كان الإعلاميون يتوافدون إلى بيتنا بسبب تغييب سجون الاحتلال والدي عنا، وما أن يباشروا في عمل اللقاء الصحفي، حتى تبدأ دموعي بالانهمار، لتتسابق عدساتهم على التقاط هذه اللحظة، حتى أنني كنت أمقت تصرفهم ظننا مني أنهم كانوا بذلك يجلبون لأنفسهم متابعات أكثر وبالتالي أموالا أكثر، ولم أكن أعي بعد أن هذه العدسة الصغيرة ستفضح جرائم الاحتلال، وستذيع وجعي لأهداف سامية، حتى كبرت وأصبحت منهم، أستبق التقاط الأحداث، لا من أجل شهرة أسعى لها، ولا من أجل وظيفة أتوق لاستلامها، بل من أجل أن أكون أولى من تتسنى له الفرصة بتجريس كل ما تقوم به عنجهية الاحتلال الصهيوني.

الإعلام مهنة المتاعب كما يصفون، وأنا وجدتها مهنة لا تختلف كثيرا عن الطب، وما الفرق إلا إن الناس هم من يذهبون إلى الطبيب ليشخص أمراضهم ويصف لهم جرعات الدواء التي ربما تشفيهم، أما الصحفي فهو الذي يجوب الأرض بحثا عن أنّة هنا وهناك، ليسلط الضوء عليها وينشرها في أرجاء الكون فيلفت العالم ويوجه أنظاره إليها، لذلك أخذت على نفسي أن أكون الصحفية الطبيبة، أخفف أوجاع العالم بما يخطه قلمي، ومل تلتقطه عدستي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.