شعار قسم مدونات

لا أبواب موصدة

مدونات - أبواب صورة رئيسية

سمعنا بما فيه الكفاية عن الاكتئاب وتجنب الاكتئاب ومحاربة الاكتئاب، ويحدث أن يصيبنا خوفنا من الاكتئاب بشيء يشبهه، وقد يتسبب حذرنا المفرط من الفخ، في الوقوع فيه. أنام ثمان ساعات فقط الان، صديقتي ترافق صديقة جديدة وأركب الحافلة وحدي، ولا أرسم خطا حول عيني كما السابق، استبدلت أغطية الرأس الملونة بأخرى سوداء ورمادية، واستبدل الناس من حولي تعاليقهم بابتسامات باردة أحيانا ومصطنعة أحيانا أخرى.. أستيقظ بعد الفجر بقليل، أرتب غرفتي، أتناول فطوري وجدتي، أتحقق من كتبي وأغادر. أتمشى قليلا قبل ركوب الحافلة وأمر بحديقة أطفال قديمة أصادف فيها كل صباح لوحة مختلفة، أكثرها جمالا وندرة، رجل قارب السبعين يتأرجح وصديقه يجرب لعبة أخرى، وددت بقوة ان أخذ لهما صورة علها تمدني بالقوة إذا ما بلغت السبعين، لكن الحافلة كانت على وشك الذهاب، وعلى عادتي، لم أكن في مزاج يسمح لي بانتظار الثانية، أعدت هاتفي إلى مكانه..
   
تتوقف الحافلة قبل الوصول خمس مرات، يصعد وينزل في كل مرة كم هائل من الأعين الذابلة والناعسة، والأفواه المثقلة والصائمة عن الابتسام، والأذان المحشوة بسماعات تملأ الفضاء أغان مزعجة، وترغمني على التظاهر بالصمم، أسأل نفسي كل يوم: كيف يقدر هؤلاء على استيعاب كل هذا الصخب في الساعات الأولى للصباح؟ للتغافل، أنشغل بقراءة اللافتات وأسماء المقاهي وعد السيارات وأشكال النوافذ، ومرات قليلة أقرأ كتابا ما..

 

بقليل من السذاجة وكثير من المنطق نستنتج أن الحياة بسيطة جدا، بسيطة بشكل يجعل استيعابها صعبا، لا بد من السقوط بعد الوقوف، والفرح بعد الحزن

وقبل سنة، كنت أغفل عن كل هذا. أرى في المدرسة وجوها أخرى، يلعن أغلبها الصباح. أمضي يومي، بين ماض وخيال وحاضر قلما يكون جميلا.. أعود إلى المنزل، متعبة أحدث نفسي عن البؤس الذي صادفته وأردد بيني وبيني: يوم طويل ممل. أجلس وجدي بمحاذاة نافذتين، يقرأ كتابه وأقرأ كتابي، يؤنسنا صوت جدتي وهي تحاول إرغام حفيدتها الأصغر على العودة للنوم، في شكل يبدو أقرب للترانيم.. بعد أخذ جرعتي من طقوس البيت، أختلي، في محاولة فاشلة دوما، لتقليد الصوفيين، أبحث عن أكثر الزوايا هدوء، أستلقي وأتذكر ما فات وما هو آت، يستيقظ شيء بداخلي يخبرني ان الأيام نحن من يصنعها وأن الجمال لا تدركه العين وأن ما أتمنى قريب إذا ما قمت واقتربت قليلا بدوري، وسرعان ما أوقف صبيب الأفكار الصبيانية هذا، وأقوم لأبحث عن أكثر الزوايا صخبا.. مر على هذه الحال زمن كثير، نسيت خلاله أشياء وتذكرت وعثرت على أخرى.

 
تغيرت الحياة من حولي بشكل مفاجئ، تلاشت بقايا ثقتي بي، توقفت عن ملء ذاكرة هاتفي بالملاحظات، وصرت قادرة على أخذ سيلفي، حتى والشارع مكتظ.. توقفت أخيرا عن عد اللايكات، واقتنيت كتبا فرنسية. حدثت نفسي عن هذا فقالت: بعد شهر، قد أصاب بالاكتئاب.

  
لا أدرك عدد الناس الذين يعيشون فراغا ولا عدد المكتئبين ولا الذين وضعوا حدا لحياتهم، لكني أظنه كبيرا. نعلم جيدا أننا لن نعيش أكثر من مرة واحدة ونوقن أن عجلة الزمن لا تعود إلى الوراء ولا نفتأ نذكر غيرنا أن الموت آت لا محالة، لكن ننسي أنفسنا، نسمح لأيامنا المعدودة بالسيلان من بين أيدينا كما يفعل الماء دونما أي مجهود، بل ونساعدها على ذلك! نقضي منغمسين في علبنا الذكية وقتا أكثر مما نفعل مع الأهل، قصرت أحاديثنا في الواقع لتطول مع برامج معلوماتية، نعم برامج، لا أشخاص وراء شاشات بعيدة فقط، تعج أدمغتنا بصافرات الإنذار كما تفعل شوارعنا بالمتشردين..

  undefined

 

أي الأبواب موصد في وجه الاكتئاب؟ كيف للنفس أن تنشرح وسط كل هذا؟ والتشاؤم بلغ بمحيطي أن يجزم أن الضوء في آخر النفق، هو مصباح قطار قد يصطدم بي، أو بهم، في أي لحظة! أذكر أني ضحكت ملء فمي لما سمعت الجملة للمرة الأولى، ثم سألتني عن صاحب الفكرة وعن هذا الدهاء الغير عادي، ولم أجد إجابة، كالعادة.

 
بقليل من السذاجة وكثير من المنطق نستنتج أن الحياة بسيطة جدا، بسيطة بشكل يجعل استيعابها صعبا، لا بد من السقوط بعد الوقوف، والفرح بعد الحزن. الدنيا لا تكتمل ولا تستقيم ولا تدوم ولا يأمنها عاقل. وإن تظاهرت باللطف والود أحيانا، تعود لتبرز أنيابها، مذكرة: ماذا بعد الكمال غير النقصان؟
 
لا ضير في البكاء عند التعب ولا فائدة في الإعراض عن جمال اليوم لأن الغد قد يكون قبيحا.. مارس طقوس جلب السعادة الخاصة بك، ولا تخبر أحدا مخاوفك الحقيقية. لا تتغزل بالقمر وأنت عاجز عن فهم جماله وتراه شيئا من بين أشياء اخرى، لا تمتنع عن إطراء ما استيعاب دماغك جماله وإن لم يفعل الآخرون، كن أنت واشغل حيزك على هذه الأرض كما يجب.

 

أمس مضى، والغد لم يصل بعد، عش يومك واحزن على قدر حاجتك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.