شعار قسم مدونات

كيف نهضت ألمانيا من جديد؟

مدونات - ألمانيا

ربما أن أهم ما يمكن كتابته الآن بين خضم هذا الكم الهائل من الهوان والذل العربي الذي تمر به شعوبنا وأوطاننا اليوم، وأثناء تلك المرحلة التي تمر بها شعوب الأمة العربية من اليأس وفقدان البوصلة، هو أن نتذكر تلك الأمم التي عانت أكثر من معاناتنا الحالية، وتلك الأمم التي مرت بظروف جعلتها أكثر ذُلاً وهوانا من حالنا اليوم، كيف نهضت من جديد وتصدرت أمم الحداثة إذا رغم ذلك؟

 

ألمانيا التي تسببت بثلاثة حروب في أوروبا منذ القرن السادس عشر حتى الحرب العالمية الثانية منتصف القرن الفائت، وللشعب الألماني باع طويل في الحروب والعدوان والتسبب بأزمات نظرا لاعتداده بنفسه وقوميته العالية التي لطالما تسببت له كشعب بالأزمات الهائلة، وعزلته عن أوروبا وجعلت الأمم تتكالب عليه مرارا، وتتصيد له المكائد وفرص الانتقام.

 

فالحرب الأولى كانت جذورها الأولى ألمانية، عندما قُتل مئات الألوف باسم المسيح، حين ظهرت اللوثرية في القرن السادس عشر نسبة إلى البروتوستانتي الألماني مارتن لوثر، عندما قام الأخير بمحاولة إصلاح الكنيسة الكاثولوكية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تقسيم الكنيسة المسيحية إلى كاثوليكية وبرتوستانتية، فاللوثرية اعتبرت وقتها أن الكنسية الكاثوليكية كنيسة أكثر فجوراً وفساداً، واعتبرت باقي المسيحيين كفرة، وكان يعتقد اللوثريين أنهم هم فقط من يتبعون تعاليم الكتاب المقدس وينفذون ما جاء به، وباقي الطوائف غير ذلك، تماما عزيزي القارئ كما يحدث في يومنا هذا لبلاد العرب والمسلمين وكما يحدث لدينهم الإسلامي من تشويه يقوم به الدواعش ومن شاكلهم.

 

بعد أن كانت ألمانيا في قاع أمم أوروبا منذ الحرب العالمية الأولى التي أنهكتها وزادتها عزلة، ها هي تصبح أعظم قوة عسكرية واقتصادية على مستوى أوروبا والعالم بأسره خلال عشر سنوات فقط من مجيء هتلر وحزبه النازي

لقد ساهمت ألمانيا بعد اللوثرية في نشوب الحروب البروتوستانتية الكاثولوكية، حين ثار مارتن لوثر على الكنيسة الكاثولوكية التي كانت تسيطر على طبقة الحكام والأباطرة والذين بدورهم يسيطرون على الثروة بمساعدة الكنيسة، ذاك التعاون بين الحكام والكنيسة الذي جعل من الأوروبيين سواد أعظم من الفقراء المعدمين وقلة قليلة من الأباطرة والحكام والإقطاع، غير أن تلك الحروب تسببت بمقتل الملايين من الأوروبيين باسم المسيح.

 

لقد حمّل التاريخ وأوروبا ألمانيا للمرة الثانية المسؤولية عن إشعال أتون الحروب بين أمم أوروبا، حين نشبت الحرب العالمية الأولى والتي تسببت بها أيضا ألمانيا، يذكر التاريخ الحقيقي أن ألمانيا كانت سببا مباشرا في نشوب تلك الحرب سنة 1914 والتي استمرت لأكثر من أربع سنوات، وخلفت ورائها 9 ملايين قتيل أوروبي وملايين الجرحى والمفقودين، كانت حادثة اغتيال ولي العهد النمساوي وزوجته في سراييفو على يد طالب صربي هي الشرارة الأولى لهذه الحرب حين أعلنت النمسا الحرب على صربيا، وهنا تحالفت روسيا مع النمسا ضد صربيا، وكان بدايتها الحقيقية حين أعلنت ألمانيا على الفور الحرب على روسيا، لقد بدأت الحرب أوروبية ثم انتهت عالمية مدمرة شرسة.

 

إذا على مر قرون تنامت كراهية الأوروبيين للشعب الألماني الذي أصبح منبوذاً ومكروهاً حتى منتصف القرن الفائت، لقد كانت ذلك عامل مهم جدا في صعود نجم هتلر وحزبه النازي قُبيل الحرب العالمية الثانية التي تسببت بها ألمانيا أيضا، هتلر الذي ركز كثيرا أثناء ترسيخ سلطته على مسألة الجنس الألماني الآري النقي الذي اخترعها وسوغ لها الجامعات ومراكز البحوث المتخصصة بالأجناس البشرية لتثبت للشعب صحة هذه النظرية التي تقول بأن الألمان هم جنس بشري فريد وعلى قمة الأجناس البشرية، لقد سوقت النازية مفهوم أن الألماني الآري النقي يجب أن يحكم العالم بأسره.

 

هنا لامس هتلر مشاعر الألمان المتعطشون للحروب وإشعال الأزمات، الألمان المعتدون بأنفسهم والمتعصبون لقوميتهم الألمانية، وبعد أن كانت ألمانيا في قاع أمم أوروبا منذ الحرب العالمية الأولى التي أنهكتها وزادتها عزلة، ها هي تصبح أعظم قوة عسكرية واقتصادية على مستوى أوروبا والعالم بأسره خلال عشر سنوات فقط من مجيء هتلر وحزبه النازي، لقد أدخل هتلر الشعب الألماني المتفاني المحب للعمل والإنجاز في ماكينة التصنيع الحربي والرأسمالي رجالا ونساء، وركزت الحكومة الألمانية وقتها على صناعة الإنسان الألماني المميز، فانتشرت حاضنات الأطفال التي كانت تُؤي أطفال العوائل الألمانية حين كُن النسوة يذهبن إلى العمل في المصانع طوال اليوم إلى جانب الرجال، فترسخ مفهوم التركيز على النشء وأصبح من أهم أولويات الحكومة الألمانية المركزية بقيادة الحزب النازي، فأصبح منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا هو التركيز على تربية الفرد الألماني في تلك الحاضنات منذ سن الثالثة وحتى سن السادسة قبل أن يدخل المدرسة، وهو أهم سن لزرع القيم الألمانية الأصيلة في الفرد الألماني منذ الصغر تتخذه الحكومة المركزية الألمانية على عاتقها.

   undefined

  

عزيزي القارئ، لقد خسرت ألمانيا مرة أخرى في الحرب العالمية الثانية أمام قولت التحالف بعد أن تسببت بمقتل 50 مليون إنسان جلهم من أوروبا، بعد أن أحرقتها ودمرتها قوات التحالف وفرضت عليها شروط استسلام قاسية جدا حتى تم تقسيمها إلى قسمين، ألمانيا الشرقية التي كانت تتبع المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي وقتها، وألمانيا الغربية التي تتبع المنظومة الغربية الرأسمالية، كان الهدف من هذا التقسيم هو كسر شوكة الشعب الألماني الذي عانت منه أوروبا لقرون والعالم بأسره، لكن أوروبا نسيت أن الألمان عملوا كثيرا على الفرد الألماني حتى أصبح اعتداده بنفسه وقوميته جينا من جيناته الوراثية، إلى أن جاء اليوم الذي هدم به الشعب جدار برلين الذي كان يقسم ألمانيا حجرا حجر، حتى أن القادة الألمان الاشتراكيون في ألمانيا الشرقية ما زالوا يتساءلون عن كيف حدث ذلك ومتى بدأ؟

 

إذا كيف نهضت ألمانيا بعد ذلك من جديد وهي دولة فقيرة لا يوجد بها نفط أو غاز أو أي موارد طبيعية أخرى، هي فقط غنية بالفحم الحجري؟ نهضت ألمانيا عزيزي القارئ خلال أقل من 30 سنة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي دمرتها عن بكرة أبيها فقط من خلال استثمارها في الفرد الألماني الذي عملت عليه وعلى تنشئته منذ الصغر ضمن برامج حكومية مدروسة، لقد أصبح الشعب الألماني المورد الأساسي والأول للاقتصاد الألماني فالشعب الألماني يعتز بلغته وتاريخه وجنسه، لا يمكن أن تتحدث في ألمانيا مع أي ألماني غير اللغة الألمانية حتى لو كان يتحدث لغات أخرى، في ألمانيا لا يهم أن تكون مهندس أو طبيب أو محامي على الرغم من أن التعليم مجاني هناك منذ الصف الأول وحتى الجامعة، المهم أن تتقن ما تقوم به سواء كنت طبيبا أو كنت صانع أحذية، ومن هنا يأتي احترام المجتمع لك، لا يوجد هناك كذبة اسمها كليات القمة كما هو الحال في بلداننا العربية، القمة فقط حين تتقن عملك وتتميز به، وحين تثبت أنك تحب عملك هذا، لذلك أفضل السيارات ألمانية وأفضل البراغي أيضا ألمانية عزيزي القارئ، في ألمانيا وعكس بلدان العالم هناك 16 حكومة ولكل حكومة قوانينها الخاصة لكنها تتبع حكومة مركزية واحدة، لا يمكن أن ينجح نظام سياسي كهذا النظام إن لم يكن هناك شعب منتمي ومحب لوطنه ومدينته وبيئته وعمله ووظيفته.

 

لا يمكن أن ننهض نحن العرب قبل أن نركز على بناء الإنسان العربي من جديد، لا فائدة من امتلاك الأسلحة وبناء الجامعات والتنقيب عن المزيد من النفط والغاز وبناء ناطحات السحاب واستقطاب الاستثمارات وبناء الجسور والشوارع والمصانع قبل أن نبني الفرد العربي المنتمي الذي يعتز بلغته وتاريخه ودينه وجنسه العربي، عند إذ سنتمكن من بناء أوطان قوية منيعة ومتطورة تكون ضمن منظومة الحداثة العالمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.