شعار قسم مدونات

أسطورة الصبر عند المصريين

BLOGS فوق القطار
كنت أراقب هؤلاء الذين "يتسطحون" فوق القطارات وفق التعبير المصري فترة دراستي الجامعية أثناء عودتي إلى بلدتي في أيام أجازتي الأسبوعية، إنها بالطبع مخاطرة جسيمة أن تمتطي سطح القطار السريع لعشرات الأميال -هكذا كنت أقول لنفسي- إنه الفقر دون شك وعدم امتلاك ثمن التذكرة هو ما دفع هؤلاء المساكين إلى خوض هذه المغامرة الصعبة.

ظلت نفسي تراودني وتحرضني على خوض هذه التجربة ثلاثة أعوام، وفي إحدى المرات، وبينما أنا أقف انتظارا لقدوم القطار وفي جيبي تذكرتي قررت فجأة خوض التجربة والصعود فوق سطح القطار لمعرفة كيف يتعامل هؤلاء مع هذا الموقف، مدفوعا بفكرة مجنونة لتغيير واقع غير إيجابي وأيام صعبة كنت أحياها.

بمجرد تحرك القطار أدركت أن هناك ثقافة شعبية كاملة لهؤلاء الذين اعتادوا السفر بهذه الطريقة، منها أن أحدهم يتطوع لمراقبة الكباري والإشارة وبعضها يمر على مسافة سنتيمترات قليلة من سطح القطار، ومن لا ينتبه لمرورها تقطع رأسه وهو جالس على الفور، وهذا المتطوع يطلق صافرات إنذار قوية أشبه بصافرات حكام المبارايات، بعدها يقوم المتسطحون بفرد أجسادهم تماما على سطح القطار مع قدرة عجيبة على حفظ التوازن. 

حين تغيب الرؤية، وتزداد مساحة الضبابية والشكوك حول أسماء ومعالجات النخبة، يلجأ الشعب مضطرا إلى قدرته الفائقة على الصبر والتأقلم، مهما كانت المخاطر كما يفعل حين يضطر إلى التسطح فوق القطار

دقائق من الرعب عشتها مرت كأعوام، وكان دخان العادم المنبعث من مقدمة القطار يكاد يحرق وجهي، والهواء المتولد بسبب حركة القطار يكاد يطيح بي ويضع نهاية منطقية لمغامرتي المجنونة.  أدرك المحيطون من تعبيرات وجهي المتجمدة أنها تجربتي الأولى، فبدئوا يسدون النصيحة تلو النصيحة لي، ولقد استسلمت تماما لهذه النصائح التي حافظت على حياتي.

وبمرور الوقت شعرت ببعض التوازن النفسي، ما مكنني -وكان هذا هو هدفي الرئيسي- من رصد تصرفات الرفقاء المتسطحون من حولي، فبينما كان الرعب مازال يسكنني رأيت شابين يتمازحان ويطارد أحدهما الآخر عدوا فوق سطح القطار المسرع، أما الغريب والمدهش والخارق للطبيعة والقوانين الفزيائية، هو ذلك المثقف الذي نام فوق سطح القطار واضعا إحدى ساقيه فوق الأخرى، وفي يده جريدة، استطاع أن يتحكم فيها رغم سرعة الهواء التي تضاهي سرعة تحرك القطار، ورأيته يقرأ الأخبار والمقالات ويقلب صفحات الجريدة في ثقة وهدوء نفسي لا أظن أن ترمب يتمتع بهما وهو الجالس على عرش أضخم ترسانة نووية في العالم.

بالطبع لم استطع إكمال الرحلة لنهايتها، وقفزت إلى الأسفل -أيضا بمساعدة الرفقاء- عندما توقف القطار في محطة تقع في منتصف الرحلة، وجلست داخل القطار أحدث نفسي بأني قد فعلتها حقا، وتمكنت من كسر حاجز الخوف بداخلي، ولكن الدرس الأهم، والملحوظة الأبرز التي رصدتها عن قرب، هي قدرة المصريين الأسطورية على التكيف مع الواقع الصعب، مهما بلغت درجة صعوبته، ثم ترويضه، ثم توليد المتعة الممكنة من داخله، ولو بإطلاق النكات الصاخبة سخرية منه، قدرة قد تصل إلى حد الإعجاز، ولكنها وبكل أسف، في الاتجاه الخاطئ، لأنها تكرس وجود من دفعوهم إلى تحمل كل هذه الصعوبات والمصائب، ولو وجهت هذه الطاقات المبهرة في اتجاه مغاير لافترسوا أعداءهم وتغير العالم.

وقد يتعجب البعض من قيمة الصبر عند المصريين ومداه وهو يتابع أحداث ومواقف أخرى لو قدرت لشعب آخر، بل لو تعرض شعب آخر لقدر يسير منها لثار وأسقط حكامه واستعاد زمام المبادرة. مع أن التاريخ يخبرنا أن المصريين هم أكثر شعوب المنطقة انتفاضا وثورة، ففي القرنين الماضيين ثار المصريون مرتين ضد الحملة الفرنسية، ثم ضد البرديسى وهو أحد أمراء المماليك عام 1804 حين قام بفرض ضرائب باهظة رغم نقص مياه النيل وتأثر الإنتاج الزراعي، كما ثاروا ضد خورشيد باشا الوالي العثماني وحاصروا قلعته لمدة شهرين منعوا فيها عن فرقته العسكرية التي عاثت في الأرض فسادا -كانت تسمى "الدلاة"- المؤن والذخيرة، وعينوا الألباني محمد علي بعدما أخذوا عليه العهود والمواثيق أن يسير بين الناس بالعدل. 

ثورة 1919 (مواقع التواصل)
ثورة 1919 (مواقع التواصل)

ثم قاوم المصريون حملة فريزر الإنجليزية في رشيد، وأجبروه على الانسحاب عام 1807، ثم ثار فلاحي الصعيد على محمد علي في إبريل 1924، وهي الثورة التي قضى عليها بشق الأنفس، كما ثار ضده فلاحو المنوفية والشرقية وبني سويف، ثم اتحد الشعب خلف عرابي في ثورته ضد الخديوي توفيق عام 1881، كما دعم مصطفى كامل ومحمد فريد، ثم أطلق الشعب ثورة عارمة عام 1919 ضد المحتل البريطاني وأعوانه من السياسيين الخونة والقصر العميل، كما قام بعمليات فدائية ضد معسكرات الإنجليز في القناة حتى تحقق الجلاء عام 1954.

 

كما ثار ضد محاكمات جنرالات النكسة الهزلية عام 1969 لدرجة أن عبد الناصر فكر في ضرب المتظاهرين باستخدام المروحيات، وتحرك الشعب أيضا ضد قرارات السادات الاقتصادية في يناير عام 1977، وتحرك الأمن المركزي ضد مبارك عام 1986، وأخيرا جميعنا تابع ثورة الشباب عام 2011 .

وهذا السرد يفسر أسباب لجوء الشعب إلى مهارات التأقلم والتكيف لديه رغم حالة الإفقار المتعمدة وسياسة التجويع وإذابة الطبقة المتوسطة التي ينتهجها السيسي .لأن وعى المصري يمنعه من التحرك دون رؤية مسار أو جلاء هدف، فحين ثار المصريون ضد الفرنسيين كان الهدف واضح، والقادة موجودون من علماء الأزهر الثقات، وحين ثاروا ضد البرديسى وخورشيد باشا كانوا يعتقدون أن محمد علي باشا هو البديل المناسب الذي يستطيع تحقيق حلم العدالة، وفي الثورة العرابية كانوا يقون في أحمد عرابي، نفس الحب والثقة منحت لسعد زغلول، وفي السبعينات كانت نخبته المثقفة المنتمية لتيار اليسار تمنيه بإعادة البوصلة صوب التوجه العروبي الناصري، وفي يناير 2011، كان الشعب مازال يثق في نخبته التي دشنت الجمعية الوطنية للتغير، أما حين تغيب الرؤية، وتزداد مساحة الضبابية والشكوك حول أسماء ومعالجات النخبة، يلجأ الشعب مضطرا إلى قدرته الفائقة على الصبر والتأقلم، مهما كانت المخاطر كما يفعل حين يضطر إلى التسطح فوق القطار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.