شعار قسم مدونات

لهذه الأرض.. رأيٌ آخرٌ

مدونات - لاجئة خيمة تنبكي

في المرحلةِ العبثيَّةِ هذه، باتَ المكانُ هو المصدرُ الأوَّلُ لأغلبِ قراراتِنا وقناعاتِنا، فليسَ غريباً اتِّفاقُ جميع الفئاتِ المتباينةِ في سوريا على أحقيَّةِ تسميةِ مَنْ غادرَهَا بالهاربِ أو الجبانِ. بالمقابلِ ليسَ غريباً أيضاً ما يحياهُ البعيدونَ عنْ أرضِ المعركةِ مِنْ وعيٍ ونظرةٍ شموليَّةٍ لِما يجري عليها (بنظرِهم). لا غرابة في اختلافِ تسمياتِهم لِما يدورُ على تلكَ القطعةِ مِنْ هذا الكون.

 

اليوم تجدُ أنَّ معظم مَنْ تبنُّوا فكرةً ما في السَّابقِ قَدْ ابتعدوا عنها، يقولونَ: ليسَ التَّنكّر للقضيّة هو الدّافع، لكنْ.. إنَّ كلَّ شيءٍ يختلفُ باختلافِ زاويةِ الرُّؤية، والمشهد مِنْ بعيد يحثُّنا على النَّظرةِ النَّاقدةِ لكلِّ ما نراهُ، فلا رابط هنا ولا مخاوف. حينَ تُهاجِرُ أو تُهجَّرُ يصعبُ عليكَ التَّحسرَ على فصيلٍ أو حزبٍ أو حكومةٍ أو قيادةٍ أو كتيبةٍ في بلدِكَ، كلّ ما تندمُ عليه هو بلدكَ بحدِّ ذاتها، هي الخسارة الكبرى لديكَ، لا شيء سواها.

 

ما يجعلُ منكَ موضع شكٍّ لكلِّ فكرةٍ ربَّما كنتَ تقطنُ تحتَ غطائِها يوم كنتَ في أرضِ بلادِكَ، لَنْ تكفَّ عنِ السّؤال والتّفكير والتّكلّم عنْ كلِّ إيجابيَّةٍ وسلبيَّةٍ، فالخطأ في موضعِكَ هذا لَمْ يعدْ مقبولاً أبداً. للأمانةِ.. أنتَ رهن الاعتقال في كلِّ مكانٍ للفكرةِ السَّائدةِ، لَنْ يكونَ بإمكانِكَ التَّنحِّي جانباً. في دولِ المهجرِ أو المنفى أو الهروبِ -سمّها ما شئت- أنتَ أيضاً محكومٌ عليكَ بانعدامِ اللّون، لا فضلَ لنفسِكَ إنْ غرَّدْتَ خارجَ السَّربِ، فالواقع كما يقولُ السَّربُ أنَّكَ لا تنتمي إليهِ أصلاً.

 

عديدةٌ هي ألوان الرَّاياتِ لدى كلّ واحدٍ منَّا، تشعرُ أنَّنا نخبِّئُ كلَّ رايةٍ لزمنِها، لقَدْ اعتدنَا الانخراطَ والتَّبنِّي لكلِّ غايةٍ سارَتْ فوقَ أجسادِنَا وفرضَتْ نفسَها علينا، فالواقع يقولُ أنَّه ما مِنْ هدفٍ لدينا سوى ما أتانا!

الظُّروف لا تلعبُ دوراً مهمّاً في الرَّأي العام، مَنْ يتكلَّمُ بها يحاولُ أنْ يكونَ إنسانيّاً لا أكثر، هو تظاهرٌ ليسَ إلّا، لا أحد يكترثُ بها، وما مِنْ امرئٍ يؤمنُ بوجودِها خلالَ الكارثةِ لدى سواه. الحربُ امتحانٌ للأنانيَّةِ، امتحانٌ لسرعةِ الإنسانِ بالتَّحوّل، امتحانٌ لمدى قدرتِهِ الضّئيلة في الحفاظِ على نفسِهِ قبلَ أنْ يتركَ وشاحَهُ.

 

في المصائبَ لا شيء صحيحٌ ولا أحد على حقٍّ سوى الموتى، قَدْ يَسقطُ الذَّنبُ عنَّا حينَ ندخلُ عدادَ الضَّحايا وغير ذلك سنبقى جميعاً مذنبين، فالعاقبة وحدها هي مَنْ تُكَفِّرُ عنَّا أفعالَنا، وما مِنْ خطيئةٍ قبل الموتِ قَدْ تُغْفَرُ لنا. جرِّبْ أنْ تقاتل بجوارِ أحد المستثمرينَ أو المناضلينَ أو الأحرارَ -أياً كانَ- بهذه الحرب، ودعِ القدرَ يُبْعِدُكَ بعد فترةٍ عنهم، بالنِّسبةِ للبقيَّةِ أنتَ منذ البدايةِ كنتَ عاراً، وبعدها ستكونُ عاراً على جماعتِكَ أيضاً. الأمثلةُ لا تنطبِقُ فقط على النَّاحيةِ العسكريّة في أرضِ المعركةِ، وليسَتْ صراعاً بينَ مَنْ في الوطنِ وخارجه، أينما كنتَ.. فإنَّ ابتعادكَ بجميعِ الأحوالِ عمَّنْ سيزدرونَكَ غداً سيجلبُ لكَ هذا الوصمَ حتماً.

 
بكلِّ بساطةٍ.. هذا نتاجُ ما زرعْنا مِنْ فكرةٍ، أنْ لا أحد يشعرُ بالموتِ سوى مَنْ يحياهُ، ربَّما كانَتِ الفكرةُ صحيحةً، ليسَ مهمّاً، لذلكَ لا عجب في كونِكَ هارباً يا مَنْ تسكنُ أوروبّا وأميركا وكندا وكلّ الدّول السّعيدةِ هذه بنظرِ الغير، فأنتَ ناءٍ عَنْ كلِّ مَنْ هناكَ، عنْ جميعِ الأطيافِ المتناحرةِ، ربَّما كنتَ حقّاً هارباً، مَنْ يثبتُ العكس؟

 

وممّا لا شكَّ فيه أنَّ الزَّمنَ كفيلٌ لأنْ يجعلَ مِنَ القاطنِ هناكَ مشروعَ هاربٍ جديدٍ، ومنَ القابعِ هنا مشروعَ أطيافٍ أخرى ووجهاتِ نَظَرٍ جديدةٍ في الصَّراع. ملحمةُ الفرارِ هذه ربَّما كانَتْ مشكلتُنا الأولى، فعديدةٌ هي ألوان الرَّاياتِ لدى كلّ واحدٍ منَّا، تشعرُ أنَّنا نخبِّئُ كلَّ رايةٍ لزمنِها، لقَدْ اعتدنَا الانخراطَ والتَّبنِّي لكلِّ غايةٍ سارَتْ فوقَ أجسادِنَا وفرضَتْ نفسَها علينا، فالواقع يقولُ أنَّه ما مِنْ هدفٍ لدينا سوى ما أتانا!

 
خلاصة القولِ.. فوقَ الأرضِ ألف هويَّةٍ تتغيَّرُ بتغيّرِ إحداثيَّاتِها، وهويَّةُ ما تحتها واحدةٌ خالدة. منْ جهةٍ أخرى: في زمنِ الحروبِ علينا أنْ ندركَ أهميَّة رفضِ الموتِ، لا رفض ما وصلَنا مِنْ صورِهِ، علينا أنْ نعطي الأولويّة للتّضامنِ مع الضَّحيَّة، لا مع اسمها، للتّنديد بالقصفِ والقتلِ، لا للتّعاطف مع المكانِ والقتلى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.