شعار قسم مدونات

مسيرة العودة.. ماذا بعد الشرارة الأولى؟

blogs مسيرة العودة
غزة.. عنوان الصمود ومهد الثورية وأيقونة التحدي، هذه المنطقة الجغرافية التي لا تذكر في موازين الخرائط والجغرافيا، غزة الصغيرة مساحةً الكبيرة عنفواناً وثورية، تلك البقعة من الأرض التي نذرت نفسها لأن تكون مصدر القلق والتحدي لكل من يحاول طمس الهوية الفلسطينية ومسح معالم الحق الفلسطيني في أرضه ومقدساته وحريته، هذه القلعة العصية على الانكسار التي قذفت مفاهيم الذل والخنوع في عرض بحرها وحذفت منطق الاستسلام من ذاكرة ووجدان أبنائها.

على مر الوقت والزمان عاش الشعب الفلسطيني عامةً وأبناء القطاع المحاصر خاصةً الكثير من المآسي والآلام، وبرغم تزايد المؤامرات والضغوط التي أوصلت الناس كما القيادات وأصحاب القرار إلى حالة من انسداد الأفق، إلا أن غزة بكافة مكوناتها وبشتى أطيافها المجتمعية والسياسية خرجت من تحت ركام الظلم والقهر لتعلن للعالم أنها تخط طريق عودتها وتسير في ركب العودة وانتزاع الحقوق، ولتقول لكل أبناء الشعب الفلسطيني في شتى أماكن تواجده أننا رسمنا طريقنا وصنعنا مركبنا؛ فمن أراد الخلاص من هذا الظلم والضياع فليركب معنا وليلحق بركبنا.

الشباب.. ريادة في الفكر والتضحيات

منذ زمن ليس بالهين ظل الشباب رهينة لصراعات حزبية أساءت للقضية وحرفت مساراتها، ودفع الشباب ثمنها فقراً وبطالةً وهدراً للأوقات والأعمار وتهميشاً للأدوار في صناعة المستقبل والقرار، الأمر الذي أوصلهم إلى حالة من اليأس والفتور لعدم قدرتهم على تغيير واقعهم الذي لم يشاركوا في صنعه وكانوا ضحية كما العديد شرائح المجتمع لسجالات حزبية ضيقة.

استطاعت التنظيمات الفلسطينية تجاوز الخلافات والانخراط في بوتقة هذا الحراك لتشكل حافزاً ورافداً هاماً أعطى دفعة قوية وزخماً كبيراً للمسيرة

لكن وبعد أن وصل الحال إلى المس بالثوابت والحقوق الوطنية من خلال محاولات تصفية القضية والقضاء على الحقوق الفلسطينية؛ نفض الشباب غبار اليأس والإحباط متجاوزين كل الخلافات الفئوية ليعيدوا رسم الخارطة الوطنية من جديد وإعادة موضعة المطالب الفلسطينية في إطارها السليم وسياقها الصحيح، فخرجت من رحم عقول الشباب فكرة مسيرة العودة ليجسدوها واقعاً ملموساً على الأرض، فتكاثفت الجهود وشُكلت اللجان وأُعلن عن الفكرة لتلقى قبولاً وترحيباً ترجم على أرض الواقع من خلال الحشود الهادرة التي خرجت إلى ميادين الاعتصام، ولم يتوانى الشباب في العمل على إثراء هذه الحالة الثورة بأفكارهم وأرواحهم، فقدموا التضحيات وقادوا الميدان وتفوقوا على حالة اليأس التي أصابتهم وأعادوا بوصلة الصراع إلى نصابه الرئيسي.

الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار.. تأملات في العنوان والهدف

في خضم هذه المعركة السلمية التي يخوضها الشعب؛ ومع بروز الفكرة وسرعة القبول استطاعت التنظيمات الفلسطينية تجاوز الخلافات والانخراط في بوتقة هذا الحراك لتشكل حافزاً ورافداً هاماً أعطى دفعة قوية وزخماً كبيراً للمسيرة، ونظراً لقدرة التنظيمات الكبيرة على الحشد والتنظيم شكلت جميع الفصائل الفلسطينية هيئة قيادية لهذا الحراك حملت اسم "الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار"، وعلى الرغم من أهمية وفاعلية انخراط التنظيمات في هذا الحراك إلا أن العديد من الأسئلة والاستفسار تُطرح حول بعض القضايا المتعلقة بالأهداف وآليات الإدارة والاستثمار السياسي لهذا الحراك من قبل الهيئة المكلفة بالتخطيط والتنظيم لهذا الأمر.

وإذا بدأنا بموضوع العنوان الذي يُرفق هدف كسر الحصار إلى هدف العودة الأسمى، فإننا نلحظ أمراً غايةً في الأهمية ألا وهو عجز التنظيمات السياسية عن إيجاد آلية أخرى للخروج من مأزق الحصار، فعلى الرغم من أهمية وضرورة رفع الحصار عن غزة إلا أن إرفاق هذا الملف كجزء من أهداف المسيرة قد يؤدي إلى الالتباس في بعض الأمور.

فقد يعكس هذا الأمر صورة لدى الإعلام وخاصة الإعلام الأجنبي أن الفلسطينيين خرجوا من أجل رفع الحصار وما مسألة العودة إلا نوعاً من التهديد بصيغة (إذا لم ترفعوا الحصار سنقتحم الحدود ونعود إلى أراضينا)، والمتابع للإعلام الغربي يجد أن هذه الصيغة هي التي يروجها الإعلام، إذ إن العديد من وسائل الإعلام ومنها نيويورك تايمز طرحت القضية على أنها هبة لرفع الحصار -على الرغم من تأييدها لحق الفلسطينيين في التظاهر إلا أنها تدعم الفلسطينيين في مسألة رفع الحصار فقط- وهذا الأمر من شأنه أن يحرف مسار وهدف المسيرة.

 

كما أنه قد يساعد على تعزيز مقاربة مفادها رفع الحصار مقابل وقف المسيرات، وتهميش ملف العودة والملفات الوطنية الأخرى كالقدس. إضافة إلى أن إرفاق ملف الحصار في مسيرات العودة قد يجعل الفلسطينيين في الأماكن الأخرى يساندون القطاع كداعمون له في سعيه لتحقيق مطالبه وليس الانخراط كجزء رئيس في هذا الحراك. لذا يجب على التنظيمات الفلسطينية أن توضح الهدف وتحدد المسار، كما يجب عليها أن تعمل على إيجاد وسائل أخرى للضغط لرفع الحصار عن غزة، فلا يجب أن نضع البيض كله في سلة واحدة.

قدر غزة المحاصرة أن تكون دائماً مهد الثورة وشرارة الانطلاق، لكنَّ غزة وحدها لا تستطيع أن تحمل كل هذا العبء والحمل الثقيل وحدها
قدر غزة المحاصرة أن تكون دائماً مهد الثورة وشرارة الانطلاق، لكنَّ غزة وحدها لا تستطيع أن تحمل كل هذا العبء والحمل الثقيل وحدها
 

أما فيما يتعلق بمسألة إدارة الميدان فإننا نلحظ نوعاً من الجمود في إيجاد آليات ووسائل تعمل على زيادة الزخم والضغط على الاحتلال، فمنذ الجمعة الأولى لم تخرج الهيئة الوطنية من إطار الاعتصام في نفس المكان ولم تصدر أوامر للتقدم التدريجي نحو السلك، وهنا يجب أن نسجل أن الشباب متقدمون بمراحل في هذا الحراك، لذا يجب على الهيئة الوطنية أن تبني استراتيجية ميدانية قائمة على التقدم التدريجي نحو السلك الزائل وتوضحها للناس، فمثلا إقامة صلاة الجمعة القادمة على شارع العودة "جكر"، مع نشر مجموعة من الشباب لحفظ الأمن وضمان عدم تقدم الشباب، وتحذير الاحتلال من أن أي اعتداء على المتظاهرين سيكون بمثابة إعلان عن اقتحام الحدود وعدم الانتظار ليوم الخامس عشر من مايو قد يكون خطوة تعزيزية وضاغطة في هذا المضمار.

أما المسألة الأهم والتي يجب أن تأخذ حيزاً كبيراً من الاهتمام والنقاش والتفكير هي موضوع الاستثمار السياسي لهذا الحراك، فالشعب الفلسطيني دائماً ما يقدم التضحيات لكنه غالباً لا يجني النتائج، لذا يجب على كل النخب والقيادات الفلسطينية أن تزيد من وتيرة النقاش والحوار لوضع استراتيجية واضحة تضمن القدرة على الاستثمار السياسي لهذا الحراك، فهناك العديد من الجهات التي تتربص بهذا الحراك، ويجب أن يكون الجميع على قدر كبير من الحكمة والمسؤولية، فمسألة الاستثمار السياسي لهذا الأمر قضية كبيرة تحتاج إلى جهود واسعة، ويجب على القيادات أن تكون على مستوى تضحيات الشعب.

فلسطينيو الضفة والقدس والداخل والخارج.. الحلقة المفقودة
طريق العودة قد رسم وأن قطار العودة قد تحرك؛ لكنه يحتاج إلى جهد الجميع ليدفعه بقوة ليصل إلى مبتغاه

قدر غزة المحاصرة أن تكون دائماً مهد الثورة وشرارة الانطلاق، لكنَّ غزة وحدها لا تستطيع أن تحمل كل هذا العبء والحمل الثقيل، نقدِّر ونتفهم الضغوط والتحديات التي يواجها الفلسطينيون في كل أماكن تواجدهم، لكنَّ هذه الضغوط والأزمات مهما كبرت وعظمت فلا يمكن أن تثني عزم الفلسطينيين على انتزاع حقوقهم، حينما أطلقت غزة شرارة العودة لم تكن في حالٍ تحسد عليه بل هي في وضع وحال يرثى له؛ لكنها نفضت غبار الإحباط واليأس وتقدمت خطوات إلى الأمام ورسمت طريقها وأخرجت ما بجعبتها، وهي اليوم تنتظر الإسناد الكبير من أبناء الهم الواحد والجرح الواحد.

 

فلا يمكن أن تبقى غزة الجريحة وحدها تصارع المحتل، بل يجب على الفلسطينيين جميعاً أن يهبوا هبة رجل واحد وأن ينخرطوا في هذا الحراك ليس كمساند وداعم بل كعنصر رئيس وفاعل. نقدر الجهود التي يبذلها الكثير من الفلسطينيين في أماكن تواجدهم المختلفة لكن هذه الجهود لم ترتقي حتى الآن إلى مستوى التضحيات والجهود التي تقدمها غزة، فيجب على الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم أن يهبوا على الفور للانخراط بمسيرة العودة وألا ينتظروا كما انتظرت جيوش العرب يوم الخامس عشر من مايو عام 1948 ليدخلوا إلى فلسطيني وقد ضاعت ووقعت في أيدي الاحتلال.

ختاماً رسالة لا بد أن يعيها كل أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والضفة والقدس والداخل والخارج أن طريق العودة قد رسم وأن قطار العودة قد تحرك؛ لكنه يحتاج إلى جهد الجميع ليدفعه بقوة ليصل إلى مبتغاه، ويجب على الجميع أن يعي جيداً أن التاريخ يكتب في هذه اللحظات، فليختر كلٌّ منها موضعه ومكانه، فإما أن يُكتب في عناوين صفحات العزة والنصر أو في هوامش الخنوع والخذلان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.