شعار قسم مدونات

حربٌ وشتاتُ أمل

blogs سوريا

في شتاءِ 2013 كان قد مضىٰ أكثر من عامٍ على بدءِ المعارك في حلب، وحينها كانت المرة الأولى التي أرى فيها الحربُ بعينيّ، وقد استطعتُ بعد ذلك أن أصفَ معنىٰ الحربِ بسهولةٍ لمن لا يعرفها، أما من يعرفها فلا، لأنني أدرك أنَّ له وصفُهُ الخاص به عنها، فالجنديان اللذان خاضا معركةً ما معاً، وأُصيبَ أحدهما بقلبه والآخر جُرحِ بظهره لا بدَّ أن جُرحيهما مختلف، بيد أن كلاهما قد تألم ألماً شديداً، وعرف معنىٰ الألم، ولكن هذا لا يعني أنني خضتُ معركةً أو شاركتُ بقتالٍ، إنما كنتُ أحدَ أركان الحرب التي لا ينفصلُ أحدها عن الآخر: السلاح وطرفي القتال والدمار، أما نحن فكنّا الدمار الذي خلّفته الحرب، أجل دماراً! وكيف لا يكون قتلُ الأبرياء وسرقةُ الأمن والأمان والتهجير من الأرض والديار دماراً.. وأيُّ دمارٍ فاجعٍ هذا!

في عام 2013 لم أرَ شيئاً جامداً أو شخصاً قبيحاً اسمهُ حرب، إنما رأيتُ الطبيعة وهي تتغير، رأيتُ وحشيةً فاجعةً للبشر، لم أكن أعي قبل ذلك كيف أنه يمكن لإنسان أن يقتلَ إنساناً مثله، أو إنساناً بريئاً علىٰ الأقل، إلا أنه لم تكن في تلك الحرب أية إنسانية. كان شتاءً مضاعفاً، لا أدري َلمَ كنتُ أراها حرباً شتائية، ألا تشبه القنابل الضوئية التي يرمونها ضوءَ البرقِ مثلاً، ألا تشبه أصواتُ القنابل والصواريخ صوت الرعد، ألا يشبه سقوطُ القذائف التي ترميها الطائرات هطولُ المطر، لقد شوّهت الحرب صورة الشتاء البيضاء، وجعلت منه شتاءً أسوداً.

في الحرب عندما تأوي إلى النوم عليك أن تنطق بالشهادة كل ليلة قبل أن تنام، فقد تنام ولا تستيقظ بعدها، هذا إن استطعتَ أن تنام وأنت تتأمَّل السقف من فوقك ويخالُ إليك أنهُ قد يسقط في أي لحظةٍ، فلتكن مستعداً على الدوام! حدّثني قريب لي مرةً قائلاً: إننا جميعاً نخاف فليس هناك مِن أحدٍ لا يخاف هذه الوحشية، ولكننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً، قلتُ لنفسي: لا شك بأننا نخاف ﻷننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً.

الحصارُ مجزرةٌ بلا دماء، من لم يمت قصفاً أو بالقنابل فليمتْ جوعاً -هكذا قال أحدهم، وسمعتُ آخر يقول: نرحل لنبقىٰ أحياء رغماً عن أنف من يريد إبادتنا

وفي يومٍ من الأيام اشتدَّ الشتاءُ كثيراً واشتدت معه الحرب، ولم يكن المكان الذي لجأنا إليه اتقاءَ القصف قد أُعِدَّ ﻷنْ يسكنُهُ البشر، كان مهجوراً، وكانت قد اتخذته بعض القوارضِ والزواحفِ ملجأً لها أيضاً، وقد غدا ليلُ المدينةِ كتلةٌ من السوادِ الصامتِ المخيف، وكأنَّما ضُرِبَ على آذانها الموت، وتُراودُهُ من حين ﻵخر أصواتٌ هائلةٌ مرعبة، ترجُّ لقوّتها الأرض، وتخلع الأبواب والستائر، وقد امتزجت أصواتُ الشتاءِ بأصواتِ الحرب، وذلك ضمن سكونٍ تام للبشر، فالحربُ عندما دقتْ أجراسها، صمتَ الجميع، لم يبقَ أحدٌ ينطق، حتى الحق لم تعد تسمع له صوتاً، ليس في الحربِ صوتاً إلا صوتُ السلاحِ والقوة.

وتتابع الليلُ والنهار والفصول الأربعة وازدادت الحربُ استعاراً، ولم يتبقَ في الأرض ملجأً منها، ﻷولِ مرةٍ شعرتُ بأنَّ الأرضَ صغيرةٌ لا تكاد تسعُني. وحقاً لم تعد الأرض تسعني عندما سمعت أن بعضَ أقاربنا قد قررَ الرحيلَ عن البلاد، سألتُ نفسي بذهولٍ: إلى أين يرحلون؟! هل يفرون من الموت؟! وبينما هو السؤال يَطرحُ نفسَه في كلِ مكان، سمعتُ أحدَهم يقول ليس رحيلنا هرباً من الموت إنما هو طلباً للحياة!

هزني بقوةٍ ما سمعته، وآلمني، "طلباً للحياة" وكيف تكونُ الحياة، أليست تعني أن ننام ونستيقظ مطمئنين بأن أنفاسنا مازالت تتردد وقلوبنا مازالت تنبض، أليس هذا هو معنى الحياة؟! إلا أن ذلك لم يكن أشدُّ إيلاماً من قرارِ رحيلنا نحن أيضاً، بتُّ مشلولةَ الفكرِ، يا إلٰهي إلى أين نرحل؟! وهل ستقبلُنا أيُّ أرضٍ غيرُ أرضنا هذه؟ أوَ هل ستسعنا بضيقنا هذا أيُّ أرضٍ في الدنيا؟

واجتاحتني مشاعرٌ تخنقُ الصدر، تنشأُ من حميمِ المعاناة كما ينشأُ الموجُ من حركةِ البحر، شعورٌ بالهزيمة يثيرُ الحقدَ في نفسي، ولحظاتٍ من الصدمةِ والذهول، كنا ننتظر الفجر أن يمهّد لشروق الشمس ونهاية الظلام، كنا ننتظر البشرى بقميص يُرمى على أحزاننا العمياء فيعلن انتهائها، لكن لا شيء يأتي، والسنين والأعوام فقط هي التي كانت ترحل، يا إلهي كنتُ أشهدُ نهايةَ شيٍء لا أريدهُ أن ينتهي.. لا أريد.

الحصارُ مجزرةٌ بلا دماء، من لم يمت قصفاً أو بالقنابل فليمتْ جوعاً -هكذا قال أحدهم، وسمعتُ آخر يقول: نرحل لنبقىٰ أحياء رغماً عن أنف من يريد إبادتنا، ابتسمتُ لقوله، فنحن سواء عشنا أو بقينا فهو في كلا الحالتين رغماً عنه. قلتُ وأنا أودّع الأرضَ ذات التراب الأحمر البهي وأشجارها التي ولدت معها وعمري من عمرها، ويدايَ تعانقُ الياسمين المتدلي إليها: سنعود إليك يا أشجار التين والزيتون والورد الجوري، ويا ريحانةَ القلبِ لا تذبُلي أرجوكِ فإنَّا عائدون. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.