شعار قسم مدونات

وإنّي ربُّ أُمنيتي..

مدونات - طفلة في مدرسة
كثيراً ما كانت تتناحر همم الطلبة في مراحلهم المختلفة حيال سماعهم البيت القائل "تجري الرياح بما لا تشتهيه السُفن"، ولطالما كانت هذه الكلمات سبباً في التهاون عن آمالهم وطموحاتهم، أتساءل كثيراً كم كانت الكتب مُحكمة الخيار، ودقيقة لأن يفكر أحدهم بأن يصير يوماً ما أراد، كم عدد الناجين من سهام التثبيط والخمول، قليل من الآخرين.

 
في إحدى المرات كنت في المرحلة الثانية من الثانوية، وقد سنحت لنا معلمة مادة القومية بالحديث خارج نطاق الدرس، "على غير عادتها"، فسألتنا لماذا لا نعطي اهتمام لمادتها، ولم تكن الأجوبة متعددة أبداً، بل اتفق جميع من في الفصل على أن المادة إلى حدٍ ما "كريهة"، ما عدا إجابة واحدة كانت مختلفة السياق نوعاً ما، "أصارحك يا آنسة أنني رغم حُبي للقراءة وكم المواد التي اقرأها، إلّا أنني لا أستطيع فتح كتاب يحمل شعار الحكومة السورية"، لم تكن تعابير المعلمة آنذاك جيدة، لقد كانت إجابة إجرامية في غضون بداية أحداث الثورة السورية، والمضحك ردها على الإجابة، "وبلا بالناقص ما تقرأ كتب الي لتعطيك شهادة، وتسويلكن مكانة، دخلك شو بتفيدك هديك الكتب بلا وثيقة".
 

إنّك ستتوه بين هذه الكتب، ما لم تُؤمن حقاً بحقيقة دوافعك، كمّ المأساة التي عُرضت يطرق مختلفة في كتب لا تُعد ولا تُحصى "هائلة"

نعم تلك الكتب سبيلنا الأوحد لحصولنا على شهادة تتيح لنا دخول الجامعة حتى التخرج والعمل، لكن الشوط الذي كنا نقطعه كان محشو بالأفكار السامة والمثبطة لعزيمتنا، لا ننكر مدى وتفوق المناهج السورية آنذاك في التحصيل العلمي، لكن قلّة هم الذين بحثوا عن علوم خلف تلك الحدود، فهل كان علي ىن سماعي لرد المعلمة أن أقف مذعوراً، تلك الصفحات خارج علوم المدرسة لن تجدي لمستقبلي نفعاً؟!
 
مع العلم أنّه رغم قوام المناهج السورية وقوتها آنذاك، إلّا أنّ أغلب العلوم كانت محض نظريات، أمّا عن حياة الطالب بعد انتهائه من الجامعة، فمن المفترض أن يلتحق بمعاهد أو تدريبات تطبيقية، تعينه وقد تمتد هذه الأخيرة لأشواط أخرى، في الوقت الذي كان فيه صاحب الخبرة والسيادة في عمله ليس ذو اسم فقط لأنه يفتقر لتلك الوثيقة، أو بالأحرى لم يخضع كُلياً للأسر الفكري والتضليل الممنهج مرحليا.
 
أذكر أنّه زاد تعلقه بكتب الأدب، وخاصة تلك التي كانت تستدعيك لتتمعن فيها وتهجئ كل حرفٍ حتى تعي ما نوى فيها الكاتب، يستحضر ذاكرته لأن يجد نفسه بين قصص ومآسي زكريا تامر، كيف له أن يتخيل إلى هذا الحد، من أين له أن يأتي بهذه الحكايا، هل هي حقيقة؟! بعضهم أراد لك أن لا تقرب كتبه، فهي محض خيال..!" ربما لهاجس خوف"، وماذا عن الماغوط وعمته الحرية والديمقراطية، ولماذا أراد أن يخون وطنه، وأحب حبيبته بكم الأمل الذي قد ينتصر للقدس..!
 
حقيقة إنّك ستتوه بين هذه الكتب، ما لم تُؤمن حقاً بحقيقة دوافعك، كمّ المأساة التي عُرضت يطرق مختلفة في كتب لا تُعد ولا تُحصى "هائلة"، ودمج أسباب المآسي والخنوع بانتفاضات الشعوب تارة، وتارةً بافتقارها العلمي، لهو المآساة الحقيقة، "وأمتنا كانت المنبع، وبسطة في العلم والقوة"، فحاذرى على نفسك أن تسقط.
 

امنح نفسك دوماً كل ما يبعث فيها حيزاً من الإشراق، ونبضاً قوياً، الحياة متسع فيها الكثير من المحن والقليل من المنح، لكنك وحدك تستطيع أن تقصر زمن الأولى وتمنح الثانية الحيز الأكبر من فراغك

وتأكد أنّ "كُلّ ما يتمناه المرء يُدركه إذا أراد، وإنّي ربُّ أُمنيتي.."، كانت سفينتي وأنا الربّان والرياح تجري على هوى قبضتي، "كثيراً ما كان ذاك الفتى يحدث فيها نفسه"، أن تؤمن بنفسك وبقدراتك، وتحول المعاناة لمنجاة، ليس بالصعب، عليك فقط أن تتخذ مركباً لا أن تشتت نفسك بين مصارع الأبواب، وتضيع.
 
كانت منى طفلة حالمة، في الرابعة عشر من عمرها، فجأة دقّ ناقوس زيجتها، وبالفعل تزوجت رغم صغر سنها وعدم وعيها لما عي مقدمة عليه، لكنها وقعت لعدم كفائتها على إقرار مصيرها، أمّا بعد، فقد استمرت حياتها الزوجية بضع سنين، لكنها لم ترزق بطفل، ورغم حبها وزوجها، إلّا أنه أصرّ على الزواج، لعله يرزق بطف، "وحدث إنهما انفصلا لعدم تقبلها فكرة أن تقاسمها أخرى حياته..".

 

في المرحلة الأولى كانت منى غير مؤهلة لن تتخذ القرار أما الآن فهي قوية واستطاعت أن تتحدى حبها وتعلقها، وأيام طفولتها التي تقاسمتها مع آخر، لكن كبريائها منعها من أن تكون ضحية لرجل يريد أن يثبت ذكوريته أمام مجتمعه على حساب تلك الطفلة التي سرق منها أجمل أيامها، مضت منى متخلية عن كل أمر، متصدية لمرارة وقساوة ظرفها، فاختارت أن تعود يوماً لرحلتها التي مضت، وعادت تكمل دراستها، بشغف وهمة، لم تكن تملكهما حين قُتلت في رحلتها.

 
ثق بأن تلك الأزمات والمحن ليست عصية، ستكون يوماً ما أردت، لكن دع نفسك تشرد قليلاً تبحث بحرية عن رغباتها، وآمالها، وإلّا قد تقع أسيرة مرّة أخرى، فلا تجعل من كلام الناس محبط، ولا تحمل في نفسك سوى تلك الكلمات التي تمنحك القوة، امنح نفسك دوماً كل ما يبعث فيها حيزاً من الإشراق، ونبضاً قوياً، الحياة متسع فيها الكثير من المحن والقليل من المنح، لكنك وحدك تستطيع أن تقصر زمن الأولى وتمنح الثانية الحيز الأكبر من فراغك، وتذكر إن من بعد كل عسرٍ بإذنه سبحانه لخير ويسراً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.